إعادة الإعمار تتحدد بمستقبل سورية السياسي

كان موضوع إعادة الإعمار من الملفات التي أخذت حيزاً من النقاش في الفترة الماضية، والتي سيزداد تداولها أكثر في الأيام والشهور المقبلة، وخاصة مع اقتراب موعد عقد جنيف2 والآمال المعقودة عليه بوضع حد للعنف الدامي في البلاد، والانطلاق نحو المرحلة الانتقالية التي تُعيد بناء سورية، دولة مدنية حديثة، بعد أن أنهكتها الحرب، وحمّلتها خسائر طائلة يحتاج الاقتصاد السوري إلى سنوات طويلة لتعويضها وإعادة ترميم ما دُمّر.

وليس من المستبعد أن يكون موضوع إعادة الإعمار من الملفات التي ستبحث في إطار مؤتمر جنيف،2 وهذا سيتحدد وفق التسويات التي ستعقد بين الأطراف الراعية للمؤتمر، بحضور السوريين الذين سيكونون مغلوبين على أمرهم، لأنهم غير قادرين، بالإمكانات المحلية، على تعويض الخسائر التي لحقت ببلدهم مما سيتطلب تعاوناً دولياً لتوفير الإمكانات لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد السوري.

وإذا كانت السلطة القائمة ممثلة برئيس الجمهورية قد رفضت العرض المقدم من البنك الدولي، المقدر ب21 مليار دولار، والذي حمله النائب الاقتصادي الأسبق، فالمطلوب هو البحث عن ممولين آخرين يكونون أكثر رأفة ولا يفرضون شروطاً إفقارية، كالتي يضعها صندوق النقد والبنك الدوليان. وهذا يتعلق بالمحصلة بمستقبل سورية السياسي وبالنخب التي ستدير دفة قيادة البلاد.

إذاً، مستقبل سورية الاقتصادي متعلق بمصيرها السياسي، وهنا نتوقف عند عدة نقاط، فنيلسون مانديلا قد توجه، مع بدايات إرهاصات الربيع العربي بتونس ومصر، برسالة إلى الثوار العرب، قدم فيها استنتاجات لما مرت به بلاده جنوب إفريقيا، في المرحلة الانتقالية التي تلت نظام الفصل العنصري، المرحلة الانتقالية التي قادها مانديلا، وهو الشخصية الوطنية الحكيمة، ينصح الثوار العرب بالاستفادة منها، إذ يقول: (إن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة. ذاك أمر خاطئ، في نظري). ثم يُضيف: (مؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام، وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلاد مع الخارج، فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون هدفهم إجهاض الثورة)، إضافة إلى (أن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية، أو عدم توازن، أنتم في غنى عنه الآن).

وضع مانديلا خريطته للخروج من مأزق المرحلة السابقة ذلك أن (النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير)… (لذلك شكلت (لجنة الحقيقة والمصالحة) التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه، وتصارحا، وسامح كل منهما الآخر). فهل سينتصح الساسة القادمون عقب انتهاء جنيف2 بنصائح مانديلا الذي عزز، بخياره، السلم الأهلي ووحدة بلاده ونمو اقتصادها.

النقطة الثانية وتأتي في السياق ذاته، أوردها أحد الأعضاء الذين سيشاركون في مؤتمر جنيف2 مع وفد هيئة التنسيق الوطنية، فقد أورد في مقالة له بعنوان (مثقفون وسياسيون رعاع) نصائح السفير البولوني بدمشق، وهي مستوحاة من تجربة بلاده، في عمليات التحول إلى النظام الديمقراطي، إذ قال: (ينبغي أن تدركوا أن النظام السابق ليس مجرد شخص هنا، وشخص هناك، إنه أجهزة الدولة بكاملها، ولكي نضمن عدم انهيار الدولة، عملنا على الاستفادة من السلطة القائمة للمساعدة في التحول إلى النظام الديمقراطي، بأقل الخسائر، لذلك وافقنا على مشاركتها في المرحلة الانتقالية، ومنحناها الأغلبية في مجلس الوزراء. الشيء الذي لم نساوم عليه هو إعداد دستور ديمقراطي حقيقي، وجميع القوانين المكملة له، وإجراء انتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة دولياً، وهذا ما حصل. وعندما جرت الانتخابات هزمنا السلطة السابقة، وضمنّا ولاء أجهزة الدولة للنظام الجديد).

قد يقول قائل: وما الرابط بين كل ذلك؟ وبرأيي، هناك رابط وثيق الصلة بكل ما تقدم، فنحن اليوم بأمسّ الحاجة لعقد مؤتمر جنيف2 ولدينا أمل أن ينبثق عنه  قرارات مُلزمة يأتي في مقدمتها إيقاف شلال الدم النازف. وبعد ذلك تأتي المرحلة الهامة والحاسمة التي تحدد مستقبل البلاد، وكيفية تطورها وعلاقاتها، وكيفية إعادة بناء بناها التحتية، وهذا يتعلق بالساسة الذين سيتم التوافق عليهم لقيادة المرحلة الانتقالية، فإما أن يكونوا حريصين حرص مانديلا على سلامة البلاد ووضع حد للشروخ الاجتماعية التي برزت، والاستفادة ممّن يملك أو يتحكم بمفاصل الاقتصاد السوري اليوم، ويسعى للحفاظ على ما تبقى من هيكلية الدولة، وإما أن نرزح تحت عبء مرحلة جديدة من نزيف الدم وضياع استقلالية القرار، إن لم يكن حدوث تقسيم لطول البلاد وعرضها. وهذا ما لا يتمناه أي وطني يحلم بأن تكون سورية دولة ذات سيادة، وشعبها موفور العزة والكرامة.

العدد 1105 - 01/5/2024