في بعض تطورات الأزمة السورية

تؤكد التطورات الجارية في سورية، بعد أكثر من عامين ونصف على بدء أزمتها، حقيقة الأهداف التي كانت متوخاة منها، والمتلخصة في النيل من سياستها وتوجهاتها الوطنية، ومن تحالفاتها الإقليمية والدولية المناوئة للسياسة الأمريكية -(الغربية) والمتعارضة معها. وتتكشف يوماً بعد يوم خلفيات التلطي وراء شعارات (الإصلاح) و(الديمقراطية).. إلخ المترافقة في الوقت نفسه مع عمليات التخريب للاقتصاد الوطني والفردي، ومع مسلسل التفجيرات والاغتيالات التي تستهدف أمن البلاد واستقرارها، وتظهر كذلك مواقف الدول والجهات التي ساندت وماتزال تساند المجموعات المسلحة الإرهابية.

ففي الوقت الذي استساغ فيه البعض شعارات (الإصلاح والديمقراطية)، كشفت الوقائع، حتى قبيل بدء أحداث آذار عام 2011 حقيقة هذه التحركات وأهدافها المتلخصة في إضعاف النظام الوطني وإسقاطه، وإدراج سورية في قائمة ما يسمى ب(ثورات الربيع العربي) المأزومة أصلاً، وتكشفت تدريجياً خلفياتها وأهدافها غير المعلنة، ومنها إشغال سورية بقضاياها الداخلية على حساب دورها الإقليمي والدولي.

أكثر من ثلاثين شهراً صعباً وقاسياً أظهرت حقيقة التعارض بين الموقف الوطني السوري ومحاولات تدجينه وضمّه إلى قائمة دول المنطقة المتساوقة مع المخطط الأمريكي – الصهيوني حول منطقة الشرق الأوسط. وأظهر الفرز الذي أكدته الأحداث تباعاً الفارق الجوهري بين شعارات الإصلاح والديمقراطية والأهداف الحقيقية لهذا الحراك الذي تحول سريعاً إلى العسكرة والعنف والاقتتال من قبل هذه القوى الظلامية.

إن استعراضنا لسياسات المجموعات المسلحة وتوجهاتها و(المعارضات) الخارجية المرتبكة، يظهر جلياً حجم التناقض بين ما تطرحه هذه الأطراف (نظرياً)، وحقيقة تطلعاتها عملياً، المتمثلة في التغيير الإرادوي الخارجي والتدخل الأجنبي، أما تحالفاتها وطبيعة علاقاتها الإقليمية والدولية فتؤكد موقع هذه القوى والرموز في خريطة التجاذبات والاصطفافات الجارية، وبالتالي حقيقة توجهها.. وأما الممارسات، وفي الصدارة منها العمل العسكري وتخريب البنى التحتية للدولة وللمؤسسات الاجتماعية العامة والفردية، المتزامنة مع قصف وتفجيرات للأماكن السكنية، فيهدف إلى إشاعة حالة من انعدام الأمن والاستقرار في البلاد. وبسبب من طبيعة تركيبتها وتوجهها وتحالفاتها تكشفت سريعاً أهدافها الحقيقية، وأدى ذلك إلى الانفضاض التدريجي لمن التفّ من حولها، بعد أن (انغشّ) بشعاراتها الرنانة، كما أنها رفضت منذ قيامها حتى تاريخه، كل الاقتراحات والمبادرات (المتوازنة) الوطنية السورية (دولة وأحزاباً وطنية)، ورفضت كذلك مبادرات الدول الحريصة على سورية كياناً وسيادة وشعباً وتوجهاً، الهادفة إلى (التفاهم والتوافق) على ماهية الإصلاح والتغيير والديمقراطية.. إلخ، والتي تلبي مصالح الطبقات والفئات الأوسع انتشاراً.

وازداد حرج أطراف الأزمة ورموز وحملة الشعارات المزيفة وارتباكهم مع فشل (توجههم) وعدم نجاحهم في ضم سورية إلى قائمة (الربيع العربي) خلال أسابيع أو أشهر قليلة، وصمود الحالة السورية أكثر من عامين ونصف، لا بل انتقالها من وضعية الدفاع إلى المبادرة وصولاً إلى الإنجازات الهامة المتتابعة والمتسارعة والمترافقة مع الإقرار الضمني أو العلني للقوى التي دعمت هذه الأطراف والرموز بفشل مخططاتها في إسقاط سورية كياناً ودولة من جهة، وفي (التخفيف) التدريجي لشروطها حول كيفية إغلاق هذا الملف والإقلاع عن شخصنة الأمور من جهة ثانية. وبدأ الحديث منذ شهور عن ضرورات الحوار والحل السياسي بين جميع الأطراف، وفي المقدمة سورية الدولة والكيان. ويتسارع هذا التحول التدريجي في كيفية التعاطي مع الأزمة السورية، لدى الكثير من الدول الإقليمية والعالمية، وصولاً إلى (التوافق) مع المبادرات والاقتراحات الدولية الإيجابية العديدة، التي طرحت منذ بدء الأزمة وصولاً إلى (التفاهمات) حول ضرورة عقد مؤتمر (جنيف2)، الذي قبلته سورية دون شروط مسبقة، وتباينت واختلفت (المعارضات) حول كيفية التعاطي معه أو ماهية المشاركة فيه.. وبالتالي ما أحدثته هذه المبادرات والاقتراحات، وبخاصة جنيف ،2 من تصدع وارتباك في مواقف الدول والجهات المؤيدة والداعمة للإرهاب والعنف والاقتتال، التي يتناقض عددها، وصولاً إلى أزمة محور (السعودية، قطر، تركيا).

بين سعي الحكومة والدولة السورية إلى الحل السياسي، والتعاطي الإيجابي مع الجهود الدولية الإيجابية، ونفي التدخل أو المساعدة الإيرانية الميدانية، والإقرار بدخول مجموعات مسلحة من حزب الله اللبناني إلى مناطق القصير الحدودية مع لبنان (لاعتبارات لها علاقة بالتداخل الجغرافي والديمغرافي وتعقيداته)، وبين تجاوز الحدود من قبل عشرات الآلاف من المرتزقة الأجانب من أكثر من 82 دولة الهادفين إلى إقامة إمارة أو خلافة إسلامية في سورية رغماً عن موقف الغالبية الساحقة من شعبها، بين هذا وذاك فارق كبير تزداد خطورته طبقاً لتصريحات زعماء القاعدة والمجموعات الإرهابية من جهة، وتصريحات العديد من وزراء خارجية وداخلية العديد من الدول، وبخاصة الغربية حول مخاطر انتشار التطرف والإرهاب. إذ حذرت العديد من الدول الغربية، على لسان مسؤوليها المعنيين، من السماح بعودة مواطنيهم الذين شاركوا في الإرهاب ضد سورية، وتعاطوا مع القاعدة وأخواتها إلى بلدانهم. وهذا ما أكدته أيضاً ونشرته العديد من الصحف العالمية الكبرى حول مخاطر عودة هؤلاء الأصوليين المتشددين إلى بلدانهم، بعد أن اكتسبوا خبرة قتالية إرهابية في الأزمة السورية.. وبالتالي تحولت الأزمة السورية وتداعياتها إلى مصدر قلق وحذر من جانب العديد من الدول التي ساعدت هذه (المعارضات) والمجموعات المسلحة سابقاً، أو تغاضت عن حركتهم وتنقلاتهم، وباتت الآن تخشى جدياً من تبعات ما بعد الأزمة السورية وإغلاق ملفها.. كذلك انعكاسات الأزمة السورية المباشر على دول الجوار السوري غير المستقرة أصلاً، أو المهيأة لخضّات اجتماعية – سياسية، والتي يوجد فيها أنوية وخلايا نائمة حتى تاريخه، أو المشاركة في دعم المجموعات المسلحة والمرتزقة في سورية.

إن انتقال الأزمة السورية من مرحلة العنف والإرهاب إلى مرحلة البحث عن حلول سياسية تغلق ملفها، بات الشغل الشاغل للعديد من الدول التي اتخذت موقفاً سلبياً من هذه الأزمة في بداياتها، متزامناً مع الاتساع التدريجي والمتسارع لمواقف الدول التي حرصت، منذ بداية الأزمة على ضرورة حلها سياسياً بما يحفظ وحدة سورية وسيادتها، وأن الحل لهذه الأزمة يقرره السوريون أنفسهم بمساعدة دولية وإقليمية، وتالياً عدم التدخل في شؤونها الداخلية السيادية.

ما كان لهذا التحول التدريجي أن يحدث، لولا صمود الحالة الوطنية السورية، ودقة تحالفاتها وصحتها أولاً، والالتفاف الواسع للشعب السوري حول جيشه الوطني وقيادته السياسية ثانياً، وانكشاف حقيقة دعاة (التغيير الإرادوي)- المؤامرة المتلطية بشعارات براقة ثالثاً، فضلاً عن التحولات الجارية في عالمنا نحو (التوازن) والتعددية القطبية والتعاطي الدولي الإيجابي استناداً إلى مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها وأنظمتها في كيفية حل الإشكاليات التي يواجهها عالمنا، ورفض سياسة التفرد والانفراد في التعامل مع هذه الإشكاليات والمساس بسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

العدد 1105 - 01/5/2024