الصفقة… وإعادة رسم حدود محور الشر

في الوقت الذي كانت فيه عبارات (محور الشر) و(الشيطان الأكبر) تسيطر على الخطاب السياسي المتبادل بين واشنطن وطهران، وسياسات رسم الخطوط الحمر التي تُهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، في حال تجاوز أحد الطرفين أحد هذه الخطوط الحمر.. كانت تُرسم في الغرف المغلقة استراتيجية الانخراط البناء (constructive engagement)، بين الطرفين، التي تهدف، لا إلى معالجة الملف النووي الإيراني، ورسم حدود النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط فقط، بل إلى تفكيك الأزمة السياسية بين طهران وواشنطن، والعمل على إعادة المياه إلى مجاريها، منذ انقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهما في 7 نيسان 1980.

ما هي شروط طهران؟

حددت طهران أربعة شروط لهذا الانخراط البناء، تعبّر عن التوجهات الجديدة في السياسة الإيرانية تجاه الغرب، يتمثل الشرط الأول في وجود معرفة واضحة بما لا يريده كلا الجانبين، وهذه الأمور لا يمكن التفاوض حولها، وهو ما تم التعبير عنه بالخطوط الحمراء، فهناك خط أحمر أمريكي خاص بامتلاك السلاح النووي، وهو ما أعلنت إيران من قبل احترامها له من خلال فتوى مرشد الثورة الإيرانية السيد الإمام علي خامنئي التي تحّرم امتلاك السلاح النووي، والتي يؤكد عليها دائماً الدبلوماسيون الإيرانيون، وخط أحمر إيراني خاص بامتلاك القدرة على إتمام دورة الوقود النووي داخل حدودهم الوطنية، وهو ما لم تعلن واشنطن عن احترامه بعد.

ويتمثل الشرط الثاني في الاستعداد لتقديم تنازلات محددة لواشنطن من خلال (الانخراط البناء)، والحديث بصراحة عما يريده كل طرف، وهو ما عبر عنه الرئيس الإيراني السيد حسن روحاني بتحديده ما تريده طهران من القدرات النووية، وهو الاستخدام السلمي للطاقة النووية. ويتمثل الشرط الثالث في إمكانية العمل على القضايا محل الاتفاق، بمعزل عن القضايا الخلافية.

ويتمثل المكون الرابع في استعداد الحكومة الإيرانية لفتح قنوات جديدة للمحادثات مع واشنطن، بالتوازي مع آلية 5+1 التي تظل إيران ملتزمة بها، وهو ما يعد ضروريّاً لمناقشة القضايا غير النووية.

ماذا تريد واشنطن من طهران؟

تريد واشنطن إيران غير نووية، تُراعي المصالح الأمريكية في المنطقة، ولا تسعى إلى قلب موازين القوى في المنطقة على نحو يُخرج الأمور عن سيطرة واشنطن، ولذلك لم تعد الإدارة الأمريكية تضع قلب النظام في إيران هدفاً استراتيجياً لها، دون أن ينفي ذلك وجود بعض الدوائر في واشنطن التي تتعامل معه كأداة لتغيير سلوك القيادة الإيرانية (أسلوب العصا المشهرة).

وبالتالي، تقوم الاستراتيجية الأمريكية التي يتبعها السيد باراك أوباما على (التعايش) مع إيران الإسلامية، والاعتراف بها كقوة إقليمية، مادامت (أزالت الغموض) حول برنامجها النووي، و التزمت بالخط الأحمر الأمريكي الخاص بعدم امتلاك السلاح النووي.

ويبدو أن خيار الصفقة الشاملة، الذي اقترحه دينس روس، هو المفضّل للسيد أوباما، خاصةً أن هناك طموحاً شخصياً له، من أجل تحقيق إنجاز دبلوماسي عجز عن تحقيقه أسلافه، وهو تصحيح خطأ قطع العلاقات مع إيران بعد اندلاع الثورة الإسلامية فيها، مع احتمال تقديم واشنطن تنازلات أكبر لطهران، تتعدى ما تحدث عنه روس في ،2009 فقد دعا روس حينذاك إلى التوصل إلى صفقة تضمن منع إيران من تطوير سلاح نووي ووقف دعمها (للإرهاب)، مقابل حصولها على اعتراف بحقها في الاستخدام السلمي للتقنية النووية، بشرط أن يتم تخزين الوقود المستنفد في منشأة تابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى جانب حصولها على ضمانات أمنية وسياسية واقتصادية، وذلك بهدف تجنّب نتيجتين: العيش مع إيران نووية أو التحرك عسكريّاً لمنعها من امتلاك السلاح النووي.

فُرص حدوث الصفقة

تدرك إيران أن لعبها دور القوة الإقليمية، يتطلب شرعية إقليمية ودولية، ويتوافر تصور لدى دوائر صنع القرار في إيران، وهذا التصور هو أن توفير الشرعية الأمريكية لهذا الدور هو المفتاح للحصول على الشرعية الإقليمية، خاصّةً أن بعض الدوائر في واشنطن لا ترى في دول الخليج موازناً للقوة الإيرانية، ولا يتم التعامل معها على أنها طرف في أي صفقة يمكن التوصل إليها مع إيران.

كما تدرك واشنطن، أن معاداة إيران، أو عزلها، لم يعد خياراً واقعيّاً، فتكلفة ذلك على واشنطن وحلفائها لم يعد بالإمكان تحمّلها، خاصة حين يتعلق الأمر باستمرار العقوبات الاقتصادية. وبالتالي، أصبح (الانخراط) مع إيران، هو الخيار الأفضل، خاصة مع حرص أوباما على تحقيق إنجاز دبلوماسي، قبل انتهاء ولايته، خاصة أنه منذ بدء حملته الانتخابية في تشرين الثاني ،2007 حرص على أن يتخذ من فتح قنوات الحوار مع إيران دون شروط مسبقة، شعاراً رئيسياً يميزه عن منافسته الديمقراطية السيدة هيلاري كلينتون، ثم عن منافسه الجمهوري السيد جون مكين.

وفي المقابل هناك ثلاث عقبات كأداء تعوق تحقيق الصفقة: الأولى، أن أجنحة عديدة في الحرس الثوري الإيراني، وفي مقدمها فيلق القدس الذي يقوده قاسم سليماني، ستتضرر بشدة من أي صفقة أمريكية – إيرانية، لأن مصالحها الاقتصادية تتغذى من العقوبات الدولية المفروضة على إيران، إضافة إلى أن هؤلاء، وهذا هو المهم، يرون أن العداء لأمريكا ثابت من الثوابت المستمدة من تعاليم الإمام الخميني وفلسفة الثورة الإسلامية. فالعداء لأمريكا، من وجهة نظر هؤلاء، لا يندرج في إطار السياسات أو حتى الاستراتيجيات، بل هو بمرتبة المبادئ ومن لوازم قوة إيران. فهم يرون أن أمريكا تستطيع، من الخطوة الأولى، توظيف تقاربها مع الإيرانيين لمصلحتها، فيما يجب على طهران أن تنتظر حتى نهاية المسار لمعرفة حسابات الربح والخسارة. والثانية، أن الكونغرس الأمريكي يحتوي على صقور بالغي الشراسة يُعارضون أي خطوة مع طهران لا تتضمن العمل على إسقاط النظام. وقد وقّع عشرة شيوخ قبل أيام بياناً أصروا فيه على أنه ما لم تفكك إيران ليس فقط برنامجها النووي العسكري بل أيضاً المدني، وما لم تصبح ديمقراطية ليبرالية (أي يجب أن يتم تغيير نظامها)، فإنه يجب أن لا ترفع أيّ من العقوبات المفروضة عليها. أما العقبة الثالثة فهي تكمن في الشرق الأوسط. إذ إن أي صفقة ثنائية أمريكية – إيرانية لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، ستُجابه باعتراضات قوية قد تؤدي إلى تقويضها.

ويرى أنصار هذا الرأي أن أكثر ما يمكن أن يحققه الثنائي أوباما – روحاني هو صفقات ثنائية صغيرة، على نمط صفقات أفغانستان وإيران غيت وما شابهها. أما (الصفقة الكبرى) التي كَثُر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، فيجب أن تنتظر ولادة نظام دولي جديد بدأت بوادره بالتكوّن فوق الجبال والسهول السورية. وفرص نجاح هذه الصفقات الصغيرة كبيرة للسببين التاليين:

الأول، الضائقة الاقتصادية الكُبرى التي تمرّ بها إيران هذه الأيام بسبب العقوبات الدولية والغربية، فقد انخفضت قيمة الريال الإيراني بأكثر من 60% خلال الأشهر الستة الماضية وارتفعت معدّلات البطالة والتضخّم، إلى مستويات شاهقة، وهذا ما دفع مُرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي إلى لجْم الحرس الثوري الإيراني عن التدخّل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (كما فعل عام 2009) وإلى الإفصاح علناً للمرة الأولى (في 16 أيلول 2013) عن استعداده لإبداء (المرونة الشجاعة) في المفاوضات النووية مع الغرب. أما السبب الثاني فهو أمريكي داخلي بحت، فقد أثبتت إدارة أوباما في الفترة الأخيرة، أن أولوياتها القصوى، تكمُن في إصلاح البيت الداخلي الأمريكي وفي الاستدارة نحو شرق آسيا، وهذا ما جعلها تبدأ بالانسحاب من كل قضايا الشرق الأوسط تقريباً، من مصر والعراق وتونس إلى سورية (مؤخراً، صفقة الكيماوي مع روسيا). كل هذا جعل القيادة الإيرانية تشعُر بشيء من الطُّمأنينة، بأن تغيير النظام الإيراني لم يعد على سلّم أوليات واشنطن.

تواجه واشنطن مشكلة في السيطرة على الشرق الأوسط جعل التقارب مع طهران أحد آخر أدواتها التي تصبّ في مصلحتها في المحصلة النهائية، فبعد أن تيقّنت الولايات المتحدة من أن مفاتيح الشرق الأوسط لا يمكن التحكّم بها بالمدخل الأيديولوجي، وأن الرهان على كسب أنظمة الإسلام السياسي في المنطقة، التي كانت من الممكن أن تحاصر بها إيران وتعزلها عن محيطها الحيوي، باستخدام البعد المذهبي في الصراع، لا جدوى منه. ويبدو أن واشنطن الآن بصدد إعادة رسم تحالفاتها في المنطقة. فقد توتّرت العلاقات الأمريكية مع القاهرة، وهي أهم حلفائها وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً في المحيط العربي بعد موقف واشنطن من أحداث 3 تموز 2013 في القاهرة. وإذا كانت واشنطن قد خسرت رهانها على الإخوان المسلمين كنموذج يمكن تطويعه خدمة لمصالحها ويحظى في الوقت نفسه برضا الشعب، ومن الممكن أن يكون له تأثير الدومينو في المنطقة، فإن النموذج الآخر وهو (الحلم التركي) في المنطقة أُصيب في مقتل، وتحولت السياسة التركية من مبدأ (صفر مشكلات) مع الجيران إلى احتمال القتال على كل الجبهات الداخلية والخارجية نتيجة السياسات المذهبية والطائفية والقومية التي اعتمدها أردوغان ووزير خارجيته داود أوغلو.

إن المتابع لتوجهات سياسة واشنطن في هذه الفترة يجد أن إيران يمكن أن تحقق أهداف الولايات المتحدة الحيوية، والتي هي: محاربة الإرهاب، ضمان أمن خطوط نقل الطاقة، منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وأخيراً الدفاع عن حلفائها في المنطقة أو منع التعرّض لهم. فتعاون إيران الإيجابي مطلوب في تحقيق المصالح الثلاث الأولى، أما فيما يخص حماية الحلفاء، فالمطلوب من إيران ألا تقوم بدور معوّق، وهو أمر ممكن إذا ما تم التوصل إلى (الصفقة الكبرى).

الخاسر الأكبر… السعودية

زرعت المملكة العربية السعودية على مدى عقودٍ مديدة من الكره والحقد والعنصرية الطائفية، والتشدد الديني، والتخلف الفكري والثقافي والعلمي، ما يكفي لتسميم العلاقات ما بين الملائكة في السماء فما بالك بالبشر على الأرض؟ كل هذا حتى يحمي آل سعود حدود مملكتهم من تأثيرات الحداثة التي بدأت تهب على المنطقة مبشّرة بعودة الروح إلى الجسد العربي مع بدايات القرن العشرين، بعد أن سرق السلطان العثماني، باسم الدين، جميع مقدرات البلاد الفكرية والصناعية والثقافية ونقلها إلى عاصمة ملكه إسطنبول مُدخِلاً المنطقة في سباتٍ شتوي دام أربعمئة عام.

ساعد الرياض على تنفيذ هذه السياسة أن الولايات المتحدة، وخصوصاً إبان فترة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، كانت تريد منع وصول تأثير الفكر التقدمي عموماً والشيوعي خصوصاً إلى منطقة الشرق الأوسط الحساسة في الاستراتيجية العليا لواشنطن. ولم تجد الحكومة الأمريكية أفضل من آل سعود لتنفيذ هذه المهمة بدلاً عنهم. ولكن بعد أحداث 11 أيلول ،2001 وهبوب عواصف (الربيع العربي) على المنطقة، أكملت واشنطن البحث عن إجابة لسؤالها الأهم في تاريخها (لماذا يكرهوننا؟).

الجواب كان: لقد دفعنا أثماناُ باهظة في حماية أكثر الأنظمة تخلفاً وعنصرية وشمولية وطائفية في العالم، والتي ردّت الجميل لنا بلدغنا مرات عديدة، فلماذا لا نجرب التفاوض مع الشيطان مرة واحدة… فالشيطان يلتزم بوعوده دائماً؟!

العدد 1104 - 24/4/2024