«الأرض الموعودة»… ثمن الحلم الأمريكي

غزت المنظومة الأمريكية العالم تحت شعار الحلم الأمريكي، وفرشت دروب الفقراء بخدع إعلامية براقة متنت ربقة العبودية حول أعناقهم. وأدارت حروبها غير المتكافئة معهم ضمن أنشوطة الديمقراطية، فغدا الفكاك منوطاً بوعي جريء يتحدى حصار مؤسسات الجشع وحواشيها.. وعي يتخطى منهجية وهم الذات مبشراً بعودة المعنى المفقود لكلمة إنسان!

يحاول المخرج الأمريكي غيس فان سانت (GUS VAN SANT) في فيلمه الأرض الموعودة  PROMSED LAND، إدارة دفة الصراع الطبقي نحو العدالة الاجتماعية الضائعة، مذكراً بحقوق الفلاحين المهدورة تحت ذرائع تسويقية غاصبة. تؤرخها وسائل النهب الممنهج التي يتبعها المصرف الدولي في قضم أراضي الفلاحين وابتلاع أحلامهم، لتعود قصص الإقطاع القديمة بنكهة عصرية تمتطي صهوة حلم الرفاه الشهير. والسؤال الذي يطرح بقوة: ما هو الثمن؟

تدور قصة الفيلم حول شركة غلوبال لاستخراج الغاز الطبيعي، التي  يبلغ رأسمالها تسعة مليارات دولار، والطرق الملتوية التي تتبعها لانتزاع حق الحفر في أراضي الفلاحين الأمريكيين. ومنها اللجوء لتوظيف مدير شاب يدعى ستيف باتلر (مات دامون) ينتمي إلى أصول فلاحية، كي يقنع أقرانه الفقراء بمزايا التعليم وسهولة التخلص من الديون عبر بيع أراضيهم. وتكتمل التمثيلية حين يدفع ستيف لشراء ملابس تناسب البيئة المحلية التي سيسوق فيها حلم الوفرة المُوَطن في ذاكرة الأمريكيين. والمفارقة أن شريكته تكتشف أن ستيف يلبس جزمة جلدية قديمة تعود إلى جده، وتكون تلك الإشارة الأولى من الكاتب للصراع الداخلي الذي سيقع على كاهل البطل بوصفه ريفي المنشأ، ومسوِّقاً للنموذج الرأسمالي في بلدة ريفية تعاني نقصاً حاداً في شروط الحياة الترفيهية والتكنولوجية.

يبدأ ستيف بالتعرف على المجتمع المحلي تمهيداً لاختراقه، ويلتقي بمدرِّسة عازبة تدعى أليس، تخلت عن حياتها في المدينة للحفاظ على منزل والدها في البلدة. ومن خلال المدرسة ومحيطها تتوالى لهفة العفوية الأهالي وتعطشهم لتغيير يكسر الروتين الاعتيادي.ولكن مشاريعه تصطدم بتساؤلات البروفيسور المتقاعد فرانك، الذي يحذر الأهالي من عواقب استخراج الغاز الطبيعي وتلويثه للمياه، منبهاً إلى خدعة تسويق استخراج الغاز إنقاذاً للحياة. مما يُدخِل المواطنين في محاججة بين الرجلين تتطرق إلى مكاسب غلوبال المدعمة بثغرات القانون الأمريكي. فالشركة لم تخسر مرة واحدة منذ عشرين عاماً في القضايا المقدمة ضدها، كما أن أزلامها يتكئون على أيقونة تخفيض الاستهلاك العام، وضرورة الحصول على موافقة جماعية في كل منطقة. وهو شكل الديمقراطية الممنوح ظاهرياً للمواطنين، والذي يتم التلاعب به باستخدام وسائل الدعاية والإعلام. فحين تستشعر غلوبال خطر فوز أنصار فرانك في التصويت المحلي، ترسل لهم أحد موظفيها متلبساً دور نصير البيئة، إذ يدعي أن منطقته تعرضت لتلوث المياه ونفوق الحيوانات. فيقع الأهالي في الفخ وينصرفون عن ستيف، ولا سيما أن موظف غلوبال يتسلل إلى المدارس ويلقي المحاضرات المؤثرة عن مخاطر استخراج الغاز، ويزرع الطرقات بالملصقات الدعائية المعادية للشركة.

حين تكتمل دائرة الإدانة يصل ملف مجهول إلى ستيف يظهر كذب رجل البيئة، ويثبت أن الأبقار نفقت لأسباب مختلفة. عندئذ يهرع ستيف إلى الأهالي مثبتاً حجته، وداعياً إلى البدء بتنظيم حفلات ترفيهية اجتماعية على حساب الشركة. وبذلك تتحطم المقاومة الأهلية وتكثر محصلة التواقيع على صكوك البيع.

استخدمت الشركة قصة واقعية لإنجاز الخديعة الإعلامية في استخفاف مبطن بعقلية المزارعين. مما يوضح دور الإعلام الرأسمالي في دفع أعناق الفقراء تحت النطع. وهي مقولة تتعزز مع فرانك في عشاء عائلي بسيط يجمعه بستيف. فالأستاذ الجامعي المتقاعد الذي تطوع على مدى 25 عاماً لتعليم أولاد المزارعين، هو ذاته من يعترف ببؤس الفلاحين وشروط عملهم الصعبة، وحاجتهم المستمرة للدعم الحكومي، وعدم تركهم تحت رحمة المصرف الدولي الذي ينتزع أراضيهم بعد عام واحد من تأخرهم عن سداد القروض. مما يجرد هؤلاء البسطاء من مقومات الفخر والاعتزاز بالكرامة الإنسانية، ويجعل منهم حطباً يشتعل في موقد الرأسمالية. وهنا تأطير واضح لحجم الخوف الذي ينتاب الجميع والقلق على المستقبل الغامض الذي ينتظرهم مع أولادهم.

كان على ستيف أن يتوقف عن طرح الأسئلة، باعتباره على طاولة الكبار كما ذكره مندوب غلوبال. لكن هروبه السابق من قريته التي حاصرها التلوث الصناعي، ووقوعه في أحضان تلوث أخلاقي مريع يتلطى تحت زعم التدخل في التصويت، أجج رفضه وأيقظ فطرته الريفية السليمة. فغير موقفه وأعلن أمام جمع الأهالي عن الخديعة التي صنعها مندوب غلوبال، مؤكداً لهم أن الحرب غير متكافئة، ولا أمل للبسطاء في الخروج من أتونها المتأهب لالتهامه.

ناقش صناع الفيلم قضية الكرامة الإنسانية في عدة مواضع، أبرزها موقف المزارع الذي رفض التوقيع حفاظاً على إرث أبناء شقيقه الذي قضى نحبه جندياً مأجوراً في العراق، وحق هؤلاء الصغار في الافتخار بتضحية والدهم كي يحظوا بالأرض ويتمتعوا بخيراتها.. فالمنظومة الأمريكية تمول حروبها بدماء مواطنيها الفقراء، وفي الوقت نفسه تنتزع منهم حصصهم الصغيرة بقابس المصرف الدولي. وبين الاثنين تتغنى بشعارات الديمقراطية والحرية.. هي حرية الإذلال والاندفاع إلى أحضان النطع الرأسمالي.

العدد 1104 - 24/4/2024