من الصحافة العربية العدد 604

الربيع  العربي… نظرة مغايرة

 

 ظلَّ العالم العربيّ لفترة طويلة جدّاً ينامُ تحت عباءَةِ التّخلُّف الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ. في حين كان المجتمعُ الدّوليّ يتطوَّرُ ويتقدّم، بل يقفزُ نحو التّطوّر بخطوات واسعة أحياناً كثيرة.

يتميّزُ المجتمع العربيّ بتنوّعه العرقيّ والدّينيّ والمذهبيّ، كما بتفاوتهِ الطّبقيّ المُذهل، وبأنّه مجتمعٌ مُسيّسٌ ربّما أكثرَ من غيره. وهذه ميزةٌ غنيّةٌ يجب الإستفادةُ منها واستثمارُها للانطلاقِ نحو عالمٍ حداثويٍّ متطوّر. إلاّ أنّ المؤلم أنّ المجتمع العربيَّ ظلَّ يُراوحُ مكانه، لا بل يزدادُ تراجُعاً وانغلاقاً وولوغاً في عتمة الجمود والتّرهُّل. ولا شكَّ أنّ لذلك أسباباً اقتصاديّة وثقافيّة ودينيّة في الدّرجة الأُولى، جعلَتْ منه مجتمعاً عصيّاً على التّغيير والتّطوُّر والتّقدُّم.

إنّ موانع التّغيير ومُعوِّقات الالتحاق بركب العالم المتطوّر عديدةٌ وقاسية. ولعلَّ أهمّها تردّي الأوضاع الدّاخليّة للمجتمع العربيّ من اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة. وهذا لا يُقلّلُ من شأن العوامل الخارجية في لَجْمِ حركة النموِّ والتّطوُّر، إلاّ أنّ العوامل الخارجيّةَ ليست كلَّ شيء، ولا تفوق في أهمّيّتها العواملَ الدّاخليّة التي تنخُرُ جسدّ المجتمع العربيّ، بل يبقى ربطُ الأُمور بالعوامل الخارجيّة فقط حجّةً ورهاناً في يد الحكّام ليجهضوا به حركةَ الشّعوب المتوثِّبة نحو بناء حياةٍ أفضل. إنّ الدّاخل العربيَّ مُثقلٌ بالسّلبيّات التي تقفُ مانعاً أمام حركة الشّعب وبناء دولته الحضاريّة. ويقفُ في طليعة تلك العوائق الدّاخليّة، ذلك الفرزُ الاجتماعيّ المبنيُّ على الجنس والعرق والطّائفة والمذهب. كان ذلك سائداً في أوربّا إبّان العصور الوسطى، لكنّها تخلَّصت منه وتغلَّبت عليه من دون أن تُعلِّقَ ملابس أزماتها على مشجب الخارج والتّدخُّل الخارجيّ. فشقَّتْ طريقَها نحو التّقدُّم والحضارة والنُّموِّ والثّقافة بكلّ أطيافِها، بينما ظلَّتْ هذه المعوقاتُ راسخةً بكلِّ ثقلها في أرجاء مجتمعنا العربي. قال ديستويفسكي: (إنّ تقييم درجة حضارةِ أيّ مُجتمع يعتمدُ في أحد جوانبه على جودة السّجون وحسْنِ معاملة السّجين). وللأسف لا تكمنُ المشكلةُ في المجتمع العربيّ بين ظلام السّجن وجدرانه البائسة، بل في نوعيّة ومستوى الحياة العامّة خارجَ السّجون أيضاً.

واضحٌ جدّاً أنّ الحكّام في المجتمع العربيّ يقفون في مواجهة أمواج ومحاولات التّغيير والتّجديد، ويُبدون قلقاً مُسلَّحاً بالعنف إزاءَهُ. إلاّ أنّ المجتمعات العربيّة ومن دون أن تدري تقف بحدِّ ذاتِها عائقاً أمام الرّبيع العربيّ وإرادة التّغيير والتّقدُّم. فالمجتمعاتُ العربيّة وفي أكثر مراكز القُوى فيها، وخصوصاً التّيّارات الرّجعيّة المتزمِّتةُ المُغلقة منها، تقفُ سدّاً منيعاً أمام مظاهر التّجدُّدِ والإبداع والخلْقِ والمُثاقفة والأفكار التّقدُّميّة التي تهزُّ عروشَ التّوازُناتِ المُحنَّطة القائمة. إنّ المجتمع العربيّ بكلّ اتّساعِه الجغرافيّ والبشريّ، لم يعرف مُنذُ قرون طويلة معنى الحياة الدّيمقراطيّة القائمةِ على فصل السّلطات، والانتخابات الحرَّة، وفصل الدّين عن الدّولة، ومبادئ المُحاسبة الدّقيقة، والشّفافيّة في العلاقات، واحترام الرّأي الآخر. الأمرُ الذي أفرزَ حكوماتٍ ديكتاتوريّة قائمةً على عبادة الفرد، والقمع، والطّائفة والمذهب، والحزب الواحد: (كلُّ قومٍ خالقو نيرونَهُم). واستكانَ الشّعبُ لذلك، وسُلِبَتْ منه كلُّ حقوق المواطَنة والعيش الكريم. يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران: (إنّ النّظام الدّيمقراطيّ هشٌّ ليّن. لا يكفي أن يتحقَّق حتّى يستمر، بل يجب استثمارُه عبرَ الزّمن كي يدومَ ويزدهر).

إنّ سياسةَ التّهميش، وعدم تكافؤ الفُرص، وسيطرةِ المفهوم الدّينيّ المُتزمِّت في العلاقات والتّفسير، وفرض سياساتٍ اقتصاديّة موالية للحكّام في كلّ أرجاء الوطن العربيّ، عزّزَ تيّارَ الهجرة بأوسع أطيافه، ففقدَ الوطن خيرةَ شبابه، وتوسَّعتْ رُقعةُ الفقر، وضاقتْ مساحةُ الإنتاج لِصالح المجتمع الإستهلاكيّ المريض، وتعمّقت ظاهرةّ البيروقراطيّة الطُّفيليّة. لذا تُعدُّ المجتمعاتُ العربيّة الآن خاليةً من الفرح والسّعادة اللّتين يجب أن تعما المجتمعات المتطوِّرة، وذلك كلّه عائدٌ إلى انتشار ورسوخ الدّيكتاتوريّات السّياسيّة والدّينيّة بأشكالها المكشوفة والمقنّعة في كلّ أرجاء الوطن العربيّ.

التّغييرُ.. إذن، ذو طيفٍ واسعٍ، اقتصاديٍّ، واجتماعيٍّ، وثقافيٍّ وسياسيّ. وكلُّ تغييرٍ لا يتناولُ إلاّ الأفراد، هو تغييرٌ محكومٌ عليه بالانهيار والإخفاق. التّغييرُ يجب أن يبدأَ من الدّاخل. يجب أن يبدأَ من حيثُ الجذور، من التّعليم المدرسيّ، بحيثُ يتغيّرُ مفهوم الفرد العربيّ للحقوق والواجبات، ويصبح قائماً على الحريّة والمساواة والاحترام. يجب بناءُ عقليّة المناقشة والتّفكير الخلاّق والإبداع، وإلغاءُ المناهج الخرساء القائمة على تقديس الفرد، وتشويه التُّراث والتّاريخ، والقفز من فوق الأخطاء ومُسبّبات الكوارث الاجتماعيّة. إنّ السّير في طريق ثقافة التّغيير يعني بناء المستقبل، بناء مجتمعاتٍ عربيّة أفضل، وأجيال جديدة متحرِّرة من قيود الجمود وظلام الجهل الذي يخدمُ استمرارَ الدّيكتاتوريّات والبعد عن أنوار التّطوُّر. وهنا يخطرُ لي قول ماوتسي تونغ: (ليس من الضّروري أن يكون التّغيير والتّطوُّر عبرَ العنف، بل يجب أن يأتي عبر الحوار والنّقاش الإيجابيّ واحترام رأي الآخر).

إنّ تحقيق التّغيير يعني بناء دولة المجتمع المدنيّ المتحرّر، وهذا يعتمد على محاربة الفساد بشتّى أشكاله (الرّشوة- المحسوبيّة- الفئويّة- الخوف). كما يعتمد على السّماح للأفراد بتشكيل أحزاب وجمعيّات تُطالب بحقوق المجتمع وتدعمها عبر وسائلَ إعلام حُرّة غير سلطويّة ولا طائفيّة مذهبيّة. وأهمُّ من ذلك تحقيقُ فصل الدّين عن الدّولة، واعتمادُ العلمانيّة والعلم والتّفكير العقليّ في تأسيس مراحل التّغيير. وغنيٌّ عن الشّرح الدّور الإيجابيّ الذي لعبه التّطوّر العلميّ والتّكنولوجيّ في بعث التّحرُّكات الأولى للرّبيع العربيّ في هذه الأيّام.

ما يحصل اليوم في كثير من الأقطار العربيّة، ليس إلاّ مجرّد انتفاضات متألّمة ومتوتّرة، انتفاضات على الواقع المرير. إنّه محاولات أو بداية. محاولات لتغيير واقع مزرٍ محنّط، ومن غير المقبول داخليّاً وضعُ الحواجز والمعوّقات أمام مسيرة التّغيير. إنّ العمل على خلق (سوقٍ حُرّة للفكر والإبداع والعمل)، هو أهمُّ ما يجب أن يتحقّق في المجتمع العربي منذ قرون طويلة. إنّ انتشار هذه السّوق أفقيّاً وعموديّاً هو أهمُّ ضمانة لتحقيق الحرّيات الاجتماعيّة وحقوق الإنسان واستثمارها في المستقبل. ولكنّنا- وبكلّ أسف- نشهدُ بدلاً عن انتشار مثل هذه السّوق، انتشاراّ مُرعباً لسوق الأوراق الماليّة، وسوق البطالة، وسوق الحياة الاستهلاكية، وسوق الرّشوة والفساد والمحسوبيّة والتّهريب.

يقول المفكّر الفرنسي فكتور هيجو: (لا يمكن لأيّة قوّة أن توقف فكرةً نضجت اجتماعياً)، وهذا ما سيحدث في العالم العربيّ، إذ إنّه عندما يرغب في التّغيير ويسعى إليه، فلا يوجد قوّةٌ تستطيع كبحَ جماحه. ومهما يكن من أمر فإنّ العامل الاقتصادي يظلُّ محرِّكَ التّاريخ دوماّ وأبداّ. واقتصادُنا العربيّ المنهار ، يحتاج إلى خلق ملايين فُرَصِ العمل بسبب التّفجُّر السُّكّانيّ المُذهل الذي يعانيه. أليس هذا كافياً لبعث إرادة ومطامح التّغيير؟

لذا… لن ينمو المجتمع العربيّ اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، إلاّ إذا تحقّقت فيه الحرّيّاتُ بجميع أشكالها، وزالت من خارطته كلُّ مظاهر القبضات الحديديّة التي تخنقُ أنفاسه.

إسكندر نعمة

(الحوار المتمدن) 20/11/2013

العدد 1105 - 01/5/2024