الفارس الذي ترجّل (مهداة إلى روح الشهيد فارس شاهين)

في الاعتداء الآثم الذي قام به الإرهابيون في عدة أماكن من العاصمة في الأسبوع الماضي، أصيب الأستاذ فارس شاهين، سفير سورية السابق في عدة دول، بشظايا أدت إلى استشهاده، رغم المعالجة التي جرت له منذ إصابته حتى فارق الحياة منذ أيام.

 

 أتساءل وأنا أودّع فارس، الوداع الأخير، ودمع العين قد تجمر، هل آن لهذا الفارس الشهم أن يترجل؟

لو كنا نعلم أن شظية غادرة ستجعل حصانك يهوي، لحملناك على أعناقنا وحميناك بأجسادنا، لأنك أملنا ومثلنا الأعلى، ولأنك ضمير هذا الوطن الذي يفخر بك وبأمثالك.

رافقتك يا فارس مرات عدة في مشوارك الصباحي اليومي إلى كشك أبو دانيال لشراء جريدة (الأخبار)، التي كنت مولعاً بها، تذهب بعدئذ إلى المقهى في القصاع، نتناقش مع الأصدقاء ونحن نحتسي القهوة.. تختلف وجهات النظر وتعلو الأصوات، وحدك يا فارس يبقى صوتك هادئاً، وتبقى كلماتك رصينة وموزونة ومعجونة بحب هذا الوطن، وفيها من إيقاع الحكماء الشيء الكثير.. وحدك يا فارس كنت أقدرنا على إعادة الهدوء إلى جو الحوار، ولم يجل في خاطري يوماً أنك ستسقط شهيداً أمام هذا الركن الصغير المتربع قرب جدار المشفى الفرنسي.. لم أكن في ذلك اليوم المشؤوم معك، ولكنني أعتقد أنك سقطت والجريدة في يدك.

يعود بي الزمن في هذه اللحظات المؤلمة إلى مقاعد الدراسة، حيث ترافقنا سنوات تجمعنا فيها هوايات مشتركة، أهما المطالعة والكتابة وولع في السياسة، كان ينمو ويترعرع، وخلال أيام الجامعة ذهب كل منا في اتجاه، أنت درست الجغرافيا، وأنا الاقتصاد، ولا أزال أذكر كلماتك عندما التقينا صدفة بأن الاختصاصين هما رحى السياسة.

ثم حملنا قطار الزمن إلى مسافات بعيدة، وألقى بكل واحد منّا في محطة مختلفة، فتباعدنا وندرت لقاءاتنا، حتى عادت شبه يومية بعد عودتك من تشيلي، حيث مثلت وطنك أرقى وأروع تمثيل، وكنت بحق السفير الجميل لهذا الوطن الأجمل.

يوم التقيت بك بعد عودتك، فاجأتني بسؤال: هل تسهر مع صديقك الأستاذ حنين نمر؟ أجبته: طبعاً.. لا تمر عدة أيام دون أن نلتقي.. فأردف قائلاً: لقد تعرفت إليه عند زيارته إلى تشيلي ضمن وفد نيابي، ولقد أعجبت كثيراً بهذا الرجل، وأرغب جداً بتوطيد صداقتي معه.. قلت له ممازحاً: ومن لا يعجب بهذا الرجل؟ وبادرت فوراً إلى مهاتفة أخي الغالي حنين، ورتبت السهرة في اليوم نفسه، وتكررت اللقاءات ووجد كل واحد منهما في الآخر ضالته المنشودة، وكانت الحوارات غنية وتصلح بحق أن تكون أساساً للحوار في صلب العمل الوطني الجاد للخروج بسورية الجريحة من هذا المأزق الكبير أقوى وأصلب بسواعد وأفكار أولادها المخلصين.

قلت لي يا فارس منذ نحو شهر: كل إنسان سوري مهما كان اتجاهه قد لحقه الضرر بنسب مختلفة، سواء في فقدان بعض من أهله أو ماله أو عمله أو منزله.. ترى ألم تكن تتوقع أن تكون برحيلك القسري قد تسببت مرغماً ودون إرادتك بأفدح الضرر لأسرتك الصغيرة الجميلة، ولأسرتك الكبيرة، هذا الوطن الغالي الذي سيظل يفخر بك وبأمثالك من الشرفاء المخلصين؟

 

أيها الفارس النبيل!

لن تكفي عشرات، بل مئات، الصفحات للكتابة عنك لاحقاً، ولكن في هذه العجالة وفي ذروة الحزن والألم، سأنهي بحادثة صغيرة، يوم سألتك رأيك في الهجرة من الوطن كما فعل الكثيرون، وكان جوابك لاذعاً بكل المقاييس، إذ قلت: لقد تعلمنا خلال خدمتنا العسكرية الإلزامية أن لا نترك الجريح في أرض المعركة، وأن نحاول إنقاذه حتى لو دفعنا حياتنا ثمناً لإنقاذه، فكيف إذا كان الوطن جريحاً؟

وفعلاً كان استشهادك أيها الفارس النبيل أنت ومن سبقك، ومن سيلحق بك من الشهداء الأبرار، ثمناً باهظاً لإنقاذ وطننا الجريح.. ستذكره الأجيال القادمة وتتفاخر به.

ارفعي رأسك عالياً يا أم نقولا.. فأنت وأولادك الثلاثة قدمتم للوطن أعز ما تملكونه، وزرعتم في ثرى عرنة القرية الوادعة سنديانة عملاقة ستنمو وتتعالى مع الأيام لتصل إلى ذرا جبل الشيخ.

في الختام يحضرني في هذه اللحظات المؤلمة بيتين من الشعر:

ماذا أقول وقولي منك ذو حصر

وقد كفيت بي الأقوال والحملا

إن قلت مازلت مرفوعاً فكذا

وإن قلت خلدك ربي فهو قد فعلا

العدد 1107 - 22/5/2024