طلاب سورية وتلاميذها في مهب الأمية

يعدُّ التعليم الركن الأساسي في تطور المجتمعات وتقدمها. لذا تعكف الحكومات والدول على سنّ التشريعات التي تمهد الطرق وتسهلها أمام هذه العملية التنموية عبر تخصيص الميزانيات اللازمة للبحث العلمي وتطوير المناهج وأساليب العملية التربوية والتعليمية وذلك برفدها بكادر تعليمي مؤهل من المدرسين والمختصين من جهة، إضافة إلى تحسين البنى التحتية وتجديدها، كافتتاح العديد من المدارس والجامعات وما يتبعهما من مختبرات وملاعب وما شابه.

غير أن الحكومات العربية لا تُعطي هذا الركن الأهمية المطلوبة من أجل تطور الفرد والمجتمع، إذ تعد الميزانيات المرصودة للبحث العلمي في هذه الدول من أدنى الميزانيات في العالم، فهي لا تكاد تبلغ 1% قياساً للدول الأخرى. وهذا مؤشّر خطير على وضع العلم والتعليم والإنسان في هذه المجتمعات التي وصلت نسبة الأمية فيها إلى مستويات مرعبة، وذلك لأسباب مختلفة يتعلق بعضها بالسياسات الحكومية المتبعة على جميع المستويات، وأهمها المستوى المعيشي السيئ للأسر، الذي يقلّص مساحات التعليم في اهتماماتها.

صحيح أن سورية من الدول الرائدة على مستوى التعليم المجاني في المراحل الأولى من التعليم، وحتى في المرحلة الجامعية، إذ لا يمكن للرسوم التي يدفعها الطالب أن تغطي الجزء اليسير مما تحتاجه هذه المرحلة، غير أنه منذ انتهاج سياسة الانفتاح وفتح الأبواب أمام القطاع الخاص في جميع المجالات، ومنها التعليم، تأثرت تأثراً كبيراً  نوعية التعليم ومستوياته في جميع المراحل حتى في التعليم الحكومي الذي بقي رغم ذلك ملاذاً للشرائح المتوسطة والفقيرة في المجتمع.

لقد عانى التعليم بجميع مراحله في السنتين الأخيرتين أزمات عديدة بسبب الأحداث الجارية، إذ تقلّص كثيراً عدد المدارس في العديد من المدن السورية بحكم التدمير والتهجير. فبحسب وزير التربية لصحيفة (الثورة) في عددها الصادر بتاريخ 15/9/،2013 فإن أكثر من 3000 مدرسة خرجت من الخدمة. وهناك أكثر من 1000 مدرسة مخصصة لإيواء اللاجئين، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسب التسرب المدرسي إلى مستويات غير عادية، مما يُنذر بالخطر الفظيع الذي يتهدد جيلاً بأكمله، وبالتالي يهدد المجتمع بالأمية والتخلّف. كما ذكرت صحيفة (الوطن) في عددها الصادر بتاريخ 1/10/،2013 عن مصادر في وزارة التربية أن المؤشرات الأولية تدل على أن التسرب المدرسي زاد هذا العام بما لا يقل عن 10% عنها في عام 2011-،2012 وذلك بعد أن نجحت الحكومة في ضغط التسرب المدرسي إلى حدود كبيرة لا تتجاوز 10 متسربين في اليوم، وذلك قبل أن يعاود ارتفاعه إلى 15 في عام ،2012 وذلك وفق دراسات موثقة. كما كشفت هذه المصادر عن ضبط ما يقارب 534 من المتسولين المتسربين من المدارس في شوارع دمشق، بينهم 50 فتاة، إضافة إلى وجود 220 تلميذا معوقاً يعيشون حياة التسرب والتسول.

تشير هذه الأرقام والنسب إلى واقع خطير على مستويي التعليم والاقتصاد الذي يعيشه المواطن السوري. إذ إن الوضع المادي المرير الذي تعيشه الأسر، لاسيما التي شُردت من مناطق النزاع، والتي فقد معيلوها في غالبيتها، والذين ظلوا على قيد الحياة فقدوا مصادر رزقهم، مما دفع بالأبناء للتسرب وهجر التعلّم من أجل العمل، إما بالتسول أو بمهن أخرى لا تقل خطورة عن التسول، من أجل تأمين لقمة العيش. إضافة إلى أن التنقل المستمر للبعض والنزوح من مناطق ساخنة إلى مناطق أخرى لا تلبث أن تصبح ساخنة قد فاقم المشكلة وزاد نسب التسرب المدرسي للأبناء.

وفوق كل هذا الوضع تأتي وزيرة الشؤون الاجتماعية لتهدد بقطع المساعدات عن الأسر التي لا يذهب أبناؤها إلى المدرسة، بدل أن تجد البدائل المنطقية والمعقولة للتصدي لظاهرة التسرب والتسول التي ألقت العبء فيها على الجمعيات الأهلية ووزارة الداخلية وفق حديثها لصحيفة (الوطن).

كما أن أستاذ كلية الحقوق محمد خير العكام، رأى أن المؤشرات تدل على ازدياد ظاهرة التسرب هذا العام، ولاسيما في بدايته، وأنه يجب على وزارة التربية أن تعمل على القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، محملاً الأهل مسؤولية التسرب بالدرجة الأولى، والقانون السوري بالدرجة الثانية.

أمام هذا الواقع المرير الذي يشهده قطاع التعليم في سورية، على الحكومة أن تجد بدائل ملائمة للاجئين الذين يقطنون المدارس، إن كان في دور العبادة من مساجد وكنائس وغيرها، أو في أماكن أخرى، وذلك من أجل استيعاب جميع التلاميذ، وبضمنهم أولئك الذين نزحوا من مناطقهم، لأن الوضع الذي تشهده المدارس لا يمكن أن يكون وضعاً مناسباً أبداً لإنجاح العملية التعليمية. فقد بلغ عدد التلاميذ في بعض الشعب الصفية أكثر من خمسين طالباً يفترش العديد منهم الأرض لعدم توفر المقاعد، وهذا وضع لا يمكّن المدرّس من القيام بواجباته من ضبط وتعليم، وبالتالي فإن الأهداف المبتغاة ستتلاشى أمام هذا الواقع.

طبعاً هذا عدا الارتفاع غير المبرر للمستلزمات المدرسية في الأسواق، بعيداً عن رقابة الحكومة، وتحديداً وزارة التربية التي اكتفت بالتوجيه للمديرين بعدم التشدد في المتطلبات غير الضرورية والأساسية، في وقت يتعنّت الكثير من مديري المدارس والمدرسين بضرورة تلبية متطلباتهم المرهقة لأرباب الأسر في ظل هذا الغلاء الفاحش.

بالمقابل، وفي خطوة أذهلت الجميع، قامت وزارة التعليم العالي برفع رسوم التعليم المفتوح بحجة صعوبة استمرار الجامعة بتحمل الأعباء المادية لها في ظل الارتفاع الكبير الذي تشهده أسعار المستلزمات التعليمية، وأن هذا الإجراء جاء ليساعد الجامعات في تغطية جزء بسيط من نفقات التعليم المفتوح، كما ورد على لسان معاون وزير التعليم العالي للشؤون الإدارية، الدكتور رياض طيفور لصحيفة (الوطن) بتاريخ 1/10/2013.

وكأن المواطن السوري، لاسيما في ظل الظروف الراهنة، يمتلك كل مقومات المساعدة التي عليه تقديمها للحكومة من أجل النهوض بمهامها، بدل أن تكون هي عوناً له في وقت بات فيه لا يجد ما يسدّ رمقه أو يقيه ذل السؤال والاستجداء.

إن ما قامت به وزارة التعليم العالي سيدفع بالعديد من الطلبة إما إلى هجر التعليم الجامعي، وهذا باعتقادي تسرّب آخر يُضاف إلى التسرب المدرسي الذي يكون مآله مزيداً من التخلف والأمية، أو الذهاب إلى سوق العمل ورفع نسب البطالة أكثر مما هي عليه الآن من أرقام باتت مرعبة. وآخر المطاف قد يلجأ أولئك الطلبة الجامعيون إلى الهجرة للبحث عن مصادر علم أو عمل خارج وطن كان عليه أن يحقق أحلامهم ليرتقي بهم وبعلمهم، في وقت صرّح فيه مسؤول في وزارة التعليم العالي الروسية عن السماح للطلاب السوريين المسجلين في الجامعات الحكومية الروسية بالدراسة مجاناً، نظراً للظروف التي تمر بها سورية. فهل يُعقل أن تكون الحكومات الأخرى أكثر رفقاً ورحمة بطلبتنا ومستقبلهم من حكومتنا الموّقرة..؟!

إن هذه الإجراءات التي تتبعها الحكومة ممثلة بوزارتَيْ التربية والتعليم العالي، لا يُفهم منها سوى أنها غير آبهة لا بمستقبل أجيالنا ولا بمستقبل الوطن، رغم كل ما يعيشه من أزمات دمّرت كل إمكانية النهوض ثانية قبل مضي عقود قادمة.

العدد 1105 - 01/5/2024