المسألة السورية والتسوية الصعبة

مفارقة، أن تكون (المسألة السورية)، محطّ اهتمام العالم ودوله، بينما يتشرد السوريون تحت كل نجم بحثاً عن ملجأ، وتضجّ دول الجوار بالشكوى من المهاجرين الذين يبحثون عن خيمة تؤوي ولقمة تشبع. يعاني السوريون من محنة لم يعرفوا شبيهاً لها في تاريخهم الطويل، ولم يقاسوا من إذلال كالذي يعيشه خصوصاً مهاجرو الخارج.

تستعير (المسألة السورية) اسمها من (المسألة الشرقية)، التي حُلّت في سياق الحرب العالمية الأولى، بتورط السلطنة العثمانية فيها، وهزيمتها وزوالها في نهايتها، واستيلاء المنتصرين، بالأحرى إنكلترا وفرنسا، على ما تبقى من الأقاليم العربية التابعة للسلطنة. المقصود بالتعبير اشتباك ما هو داخلي بقوى خارجية تحد أو تلغي قدرة القوى الداخلية على التصرف الحر. نشأت هذه المسألة من التطور والتعقيد في (الأزمة الوطنية السورية)، وهي أزمة داخلية عميقة الجذور، كشف الغطاء عنها حراك شعبي سلمي شمل البلاد، ضد الاستبداد والفساد وتدهور مكانة القانون، وتردّي شروط المعيشة وتخلي الدولة التدريجي عن واجباتها. وبدلاً من إدراك فوات النظام، وانتهاء صلاحيته وملاقاة الحراك الشعبي وتلبية مطلبه في الإصلاح والتغيير، وقطع الطريق على التدخل الخارجي أو على الأقل الحدّ منه، لجأت السلطة إلى العنف، أو ما سُمّي بالحل الأمني، مما استدعى عنفاً مضاداً أخذ يزيح الحراك السلمي ويحتل مكانه. لم تفوّت قوى إقليمية ودولية مختلفة الفرصة للتدخل في الشأن السوري الداخلي، خصوصاً بعد أن زالت آثار المفاجأة التونسية ـ المصرية، وبعد أن نجح الغرب في غزو ليبيا. لم يكن هدف المتدخلين الانتصار للديموقراطية، ولا تقديم الدعم للشعب في اختيار نظامه وحكامه. فبنية النظام وتركيبه ورجاله وسياساته الاجتماعية الاقتصادية والداخلية لم تكن موضوع خلاف بينهم وبين أهل النظام. موضوع الخلاف هو أولاً الجيش السوري كقوة ينبغي إلغاؤها أو إضعافها، إذا أريد الاستيلاء على الدولة. وهذه تجربة نجحت أمريكا في تحقيقها بحلّ الجيش العراقي فور احتلال العراق عام 2003. في هذا الهدف تشارك إسرائيل الولايات المتحدة. ثانياً، وربما أولاً بالنسبة للبعض، فك الارتباط السوري الإيراني، وإنهاء العلاقة مع (حزب الله).

ما لم يكن في الحسبان

ما لم يكن في حسبان أحد هو هذا الطوفان البشري الذي غمر الشوارع، وهذا الاستعداد لتقديم التضحيات لتحقيق التغيير. ارتباك الدول الغربية بالأحداث سرعان ما زال وجرى الاستعداد لغزو ليبيا. يقول مثل أوربي (تأتي الشهية مع الطعام) لقد شجّع النجاح في ليبيا الاستدارة نحو سورية، التي أُريد لها سياق مشابه. وعندما استحال الحصول على قرار بالتدخل من مجلس الأمن، جرى التسرب عبر دول الجوار. فالأهمية الكبيرة للموقع الجيو سياسي لهذا البلد تعطي لمن يفوز في الصراع عليه قوة خاصة في تحديد مستقبل الإقليم وأوزان وعلاقات القوى بين دوله من جهة، وبين الأخيرة ودول العالم من جهة أخرى. بذلك صارت سورية ساحة صراع إقليمي ودولي، وأصبحت المسألة الداخلية جزءاً من كتلة مشاكل إقليمية ودولية، وفقد السوريون تدريجياً القدرة على حلّها باستقلال عن غيرهم وبمعزل عن المشاكل المتعلقة بهذا الغير. الصراع الدولي، كما أبرزته الأحداث، متعدّد الأهداف. وما كان يمكن لهذه الأهداف أن توضع لو لم تكن موازين القوى قد تغيرت على المستوى العالمي. تزامنت، إذاً، الحالة السورية مع هذا التغير. على المستوى الإقليمي، شارك الكبار والصغار في الصراع في الأرض السورية.

إيران تدافع عن حلفائها، وتخوض على أرض أخرى معركة الدفاع عن أرضها ومشروعها ومطامحها. دعم الأتراك والإيرانيين للمتحاربين على الأرض لم يكن استمراراً لصراع الماضي، ولا إحياءً للصراع بين الصفويين والعثمانيين، بل على الحاضر والمستقبل. أما العرب فلم يعُد لديهم، بعد رحيل عبد الناصر مشروع قومي. بل أصبح لدى السعودية ودولة قطر (العظمى) مشروع، تظهر آثاره التدميرية في سورية والعراق ولبنان، هو في حقيقته حرب استباقية للحيلولة دون التغيير في الجزيرة العربية، وإن خيضت تحت شعار الحرب التي لا تنتهي بين السنة والشيعة. تحت هذا الشعار وبالمال الخليجي جندت الدولتان الكثيرين وخاضتا الحرب بالمرتزقة، ووظفتا وسائلهما الإعلامية في حرب إعلامية غير مسبوقة.

الاتفاق الروسي ــ الأمريكي

ليس هدف هذه الورقة وصف الحراك الشعبي في سورية، ولا التدخل الخارجي، أو التضحيات والمشقّات والآلام التي تحملها السوريون، ولا الخراب الذي حلّ بالبلاد واقتصادها. الهدف هو التوقف عند المرحلة التي وصلت إليها هذه الحرب، من خلال الاتفاق الروسي الأمريكي على حلّ سياسي للأزمة السورية، أو ما سُمّي باتفاق جنيف 2. تنطلق فكرة الحل  السياسي من أن الدولتين الكبريين المشتبكتين بالأحداث، والمرتبطتين بأطراف الصراع الداخلي والإقليمي والدولي قد تواضعتا على أن الحرب القائمة لا يمكن حسمها من الطرفين المتحاربين على الأرض، وليس في الأفق المنظور حسمها، ولا يريدان المزيد من التورط إلى حد يخرج عن قدرتهما على التحكم في الأحداث. نتيجة تأخّر الاعتراف بها كثيراً، على الرغم من أنها كانت معروفة، على الأقل منذ الأشهر الأخيرة لعام 2011. فالحرب القائمة جاءت امتداداً للسياسة، والسياسة عليها أن تتابع الأمور، إذا أمكن اتفاق الأطراف أو أغلبها على وقف الحرب، وما لم يمكن تحقيقه بالحرب سيحاوَل تحقيقه أو تحقيق جزء منه بالسياسة وبوسائلها المتعددة، وإذا فشلت فالمنطقة، وسورية منها، قابلة للاشتعال.

يبقى السؤال قائماً عن الأمر الذي عجل بالاتفاق؟ هل هو الخوف من امتداد الحرب إلى دول الجوار، وبالتالي الوصول أيضاً إلى وضع لا يمكن السيطرة عليه؟ قطعاً ليس ما دفع إلى ذلك هو الوضع الإنساني، ولا عدد القتلى والمعوقين والمحصورين والمحاصرين والمهجَّرين والمهاجرين. وماذا يفرق مع البعيدين عن ساحة الأحداث قتل مئة ألف إنسان أو مليون؟

نهاية المأساة المؤجلة

يريد السوريون استعادة قضيتهم، ووضع حد للمأساة التي تتفاقم، وليس لأنهم استسلموا وأعلنوا التوبة ويريدون العودة للاستقرار تحت خيمة النظام، وليس لأن النظام قد تغيّر، ولا بدّ له من أن يتغير، بل لأن أمرهم خرج إلى حد كبير من أيديهم، على الرغم من كون مجتمعهم قد كشف عن قوة غير عادية، وأظهر تماسكاً لم يتوقعه كثيرون. لذلك لم تسقط الدولة، وسيبذل السوريون ما في طاقتهم لمنع هذا السقوط. لكن استمرار الحرب يهدد بأخطار كبيرة، على رأسها الانهيار التدريجي للدولة، بما يمهد لاحتلال البلاد وتقاسمها من الخارج، أو تقسيم البلاد، من قوى أصبحت موجودة في الداخل، ونشوء كيانات هزيلة غير قابلة للعيش المستقل، ونتيجة كلا الأمرين واحدة.

اجتماع (جنيف 2) لن يضع،على الأرجح، نهاية سريعة للمأساة السورية. (جنيف 2) بداية، مثلما كان جنيف ،1 وربما ستتوالى بدايات أخرى، فلا أحد يعلم إن كان سيتم اتفاق على وقف القتال، الذي هو ضرورة أولى بين ضرورات كثيرة. وهل بمقدور (جنيف 2) وقف القتال؟ وهل هناك إرادة أكيدة بذلك؟ أم هي فرصة لالتقاط الأنفاس؟ وكيفما تطورت الأمور، فالذهاب إلى جنيف أو ما يشبهها، إذا كان جدياً، لا يعني إلا أمراً واحداً: الاستعداد لعقد اتفاق تسوية. هل أصبح السوريون مستعدّين للتسوية؟ بل هل الأطراف الأخرى المشتبكة تبحث عن تسوية؟ لا توجد تسوية تحقق الأهداف الكاملة لأي من طرفيها أو أطرافها. التسوية حل وسط ينبغي أن يوقف الحرب والدمار ويفسح في المجال أمام السوريين لوضع أيديهم على قضيتهم، ويتيح من الحرية ما يفتح الطريق أمام الشعب للتغيير وبناء دولة القانون والمواطنة.

في الأوضاع الحالية يبدو مثل هذه التسوية بعيد المنال، لأن أسباباً عديدة تتضافر لتجعله كذلك. القوى الإقليمية لها تصورات بعيد بعضها عن بعض. البعض يذهب إلى جنيف من باب البروتوكول. البعض حضوره مثل غيابه. صراع القوى الإقليمية مستمر على الساحة السورية، وإذا هدّئت، فساحة العراق نصف مشتعلة وساحة لبنان ليست صعبة على الإشعال. لا علامات على تسوية بين هذه القوى.

الطرفان الدوليان الأساسيان بينهما جملة من المشاكل، المسألة السورية واحدة منها. ربما اتفقا على الحد الأدنى أي ألا يتورطا إلى حد التصادم، وأن يستمرا في التفاوض. ما يتفقان عليه يعملان لتنفيذه. وقد رأينا نموذجاً لذلك في التراجع عن (الضربة) الأمريكية وتصفية السلاح الكيماوي السوري. من المرجح أن الوضع السوري لم يعد ضاغطاً على أي منهما. يبقى على من يمثل السوريين أو يدّعي تمثيلهم، أن يراجع السنوات الثلاث المنصرمة، وأن يرى حال الكتلة الكبرى من السوريين، التي تعاني من الحرب والموت والهجرة والجوع وخراب البيوت، ولا تملك الوسائل للتعبير عن رأيها.

 

عن (السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024