«الموظف» The Employerالعبء الوحشي للرأسمال التراكمي

تفرض حياة الصخب والعنف تيه العقل وضياع التبصر، وتحكم على المشاعر الإنسانية بالتبلد في بوتقة الجمود الثقلي وفتنة أشراكه، ما يجعل آلام النفوس الكبيرة قيمة مضافة، إلى رصيد الجراح الدامية في جسد التجربة الإنسانية، تنكأ صديدها وتدمغه بمذاق الخيبة والخذلان المريع.. ومع كل غصة في الروح الكلية تقوم صورة، ومعها تبرز الحجة، وبهما يرتسم الجحيم والمطهر وأمل الخلاص.

يأتينا الفيلم الأمريكي الحديث (The Employer) /المُوظّفْ، بصورة مختلفة عن تأجج النفوس بالثقل وتأرجحها بين جموح الحياة المنفلتة عن ضوابطها الأخلاقية، والثمن الواجب دفعه تخلصاً مما اصطلح على تسميته بالضمير.. ومع أن المخرج فرانك ميلر اختار التصوير في مواقع مغلقة محدودة، مما أسبغ طابع المسرحة على الأحداث، لكن  ذلك لم ينقص من حيوية الفيلم ولا من تفاعليته الدرامية.

يدور الفيلم حول طريقة الرأسمالية الوحشية في اختيار موظفيها الجدد، والتي تشبه الأساليب المتبعة في روما القديمة، إذ يحشر المرشحون للعرش الإمبراطوري في قاعة مغلقة، ويدفعون إلى تصفية بعضهم بعضاً. ومن ينجُ يعدُّ مختاراً من العناية الإلهية! وبنفس الطريقة يختار خمسة مرشحين إلى منصب المدير، في شركة تتعامل بالأسهم وتقوم ببيع الشركات وشرائها، ثم تحجزهم في صالة مغلقة وتدفعهم للاقتتال الوحشي سعياً وراء المنصب.

يبدأ الفيلم بمشهد يظهر رجلاً منهكاً يمسك بحجر كبير ويتهيأ لقذفه، مما يمنح المشهد طابعاً سريالياً، يفيد لاحقاً في توطين فكرة الحلقة الدائرية للعنف وضراوة البقاء، والمدى الذي يقطعه المحتاج في التخلي عن إنسانيته أثناء بيع جهده. دون إغفال ذكر الفخامة الأسطورية للمكان التي يعاينها المرشحون بذهول أثناء توجههم لإجراء المقابلات الأولية، تمهيداً لانتقاء المناسبين للهدف. ويجري التركيز أثناء المقابلة على جوانب شخصية بحتة، مثل سرعة الغضب، التأقلم، المكر وانعدام الضمير، الذكاء المغلف بحس الاضطهاد، الإدمان المقترن بالتوتر.

يستيقظ المختارون في مكان معزول، مقفول بخمسة أرقام سرية، يفتح كل رقم عقب مقتل أحد الضحايا، ليصل الأخير إلى الرقم الذي يفتح الباب ويتلقى عرض التوظيف.. ويتبدى واضحاً منذ البداية وجود اختلاف كبير في الطبائع. فجيمس هادئ تماماً ومسالم، وساندرا خبيثة وماكرة، أما بيلي فمثقفة ومقاتلة في الوقت نفسه، بينما كيث محدود الذكاء ورياضي الجسم. ويبقى مايك العدواني الذي ينتزع تبغه بعد اختطافه لتأجيج الحالة العدائية والشحن الوحشي للنفوس المقيدة والمسعرة بالحقد والحسد. فمايك المتوتر يتحدى كيث ويفعل غضبه، ويعلو الخوف ويشتعل التأهب. ثم يغافل مايك كيث ويقتله خنقاً، لتقتله بيلي الغاضبة إثر اكتشافها الكذب الذي استُدرجت به إلى الفخ عبر موظف في الشركة يتودد لها ويعاشرها.. أما ساندرا التي تحتقر مبدأ المساواة بين البشر، فتغتال بيلي ثم تحاول قتل جيمس، الذي يقتلها دفاعاً عن نفسه. وبالتالي يصل جيمس إلى الجولة النهائية من تصفيات القتل.

المفارقة أن جيمس كان أقلهم تأهُّلاً لنيل الفرصة، مما يستدعي إلى الذهن فكرة الوحشية القصوى في نظام السوق الحر، القائم على تجريد الإنسان من صفته الإنسانية عبر حجزه ودفعه للشعور بالخوف والتهديد الأعظمي، تمهيداً لسحق ممانعته بذريعة هاجس البقاء وخلخلة الدافع الأخلاقي القائم على احترام الآخر وضمان مساحته الخاصة للتفتح الخلاق.. وبالتالي يغدو جيمس المالك لخاصية التأقلم السريع، مديراً لشركة الشركات بعد قتله للمدير السابق الذي ظهر في مقدمة الفيلم، وبالتالي كان تسعير الغضب هو السلاح الفتاك لتحويل الإنسان المسالم إلى آلة للقتل، والتحدي الأكبر للرأسمالية في رهانها على استلاب كل ما يتنفس وصولاً إلى انتهاك الإنسان، هو انتصارها الأكبر!

العدد 1104 - 24/4/2024