بعد الاستفتاء… مصر ترسم مستقبلها

توجّه الناخبون في مصر يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين إلى مراكز الاقتراع للاستفتاء على مشروع الدستور المعدّل، في أول استحقاق انتخابي لخريطة الطريق التي أُعلنت عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسي، وسط رهان من الحكم على تأمين نسبة مشاركة مرتفعة، في مقابل رهان (الإخوان المسلمين) وحلفائهم على رواج دعوتهم إلى المقاطعة، وجاءت نتائج الاستفتاء المؤيدة للدستور بنسبة تجاوزت 98%، وبنسبة مشاركة بلغت نحو 38%، مخيبة لآمال المقاطعين.

لكن ما هو مفهوم الاستفتاء الشعبي الذي راهن عليه الجميع؟ وما هي قيمته الحقيقية في الحياة السياسية في البلاد؟

مفهوم الاستفتاء الشعبي، من الناحية الاصطلاحية، هو عرض موضوع ما على الشعب ليقول كلمته فيه. وبناء عليه، يعد الاستفتاء الشعبي من أهم مظاهر الديمقراطية المباشرة، إذ تتجلى مشاركة الشعب في شؤون الحكم بصورة جلية في هذا المظهر من الديمقراطية، ولهذا النظام أهمية حقيقية لدى أفراد الشعب، لأنه كونه يُشّعِرُهم بأهمية دورهم في رسم المنهج السياسي لدولتهم. كما أنه يعد الدافع الأساسي الذي يُسهم في تنمية قدرات وكفاءات المواطنين، لأنه يتطلب أن يكون الشعب المُستَفتى قد وصل إلى درجة مقبولة من الوعي السياسي. والجدير بالذكر هنا أن القيمة الحقيقية للاستفتاء لا تبدو إلا حين يفهم كل من يدلي بصوته ما هو موضوع الاستفتاء حتى يقرر القبول أو الرفض، أما إذا وافق المواطنون من دون إلمام بالموضوع فإن هذا الإجراء يمثل مظهراً بلا جوهر ولا فائدة فيه، بل هو مجرد إضفاء الصفة الشرعية على مسألة قد تكون غير شرعية بالمطلق.

أبرز التعديلات في الدستور الجديد

1- إلغاء تحديد مصادر الشريعة المعيّنة التي سيستند إليها التشريع، والإبقاء على النص بعموميته ومن دون تحديد، كما ورد في مسوّدة الدستور السابق (المادة 219).

2- حظر قيام أحزاب دينية (المادة 74).

3- حرص الدستور الجديد على تحقيق العدالة الاجتماعية، بإقرار مبدأ تعدد الشرائح الضريبية وتصاعد معدلاتها حسب قدرة المكلف، و؟ذا ؟و الأساس الرئيس لأي نظام ضريبي عادل يعفي الفقراء ومحدودي الدخل من دفع الضرائب، ويتدرج في معدل الضريبة تبعاً لحجم الدخل. كما تجسدت العدالة أيضاً في إلغائه للاستثناء من الحد الأقصى للأجر للعاملين لدى الدولة، الذي كان موجوداً في دستور ،2012 وهو ما يعني فتح الباب لإصلاح نظام الأجور.

4- كما قدم الدستور الجديد ضمانات جدّية تصون حقوق العمال والفلاحين، وتحظر الفصل التعسفي وتعمل على بناء علاقات متوازنة بين العمال وأصحاب العمل. كما ألزمت الدولة بشراء المحاصيل الأساسية من الفلاح بأسعار عادلة، وأن يكون له نصيب محدد في الأراضي المستصلحة، والحق في الحصول على ضمان اجتماعي يحفظ كرامتهم. كما خصصت مادة مستقلة لأول مرة في دساتير مصر لحماية الصيادين وتمكينهم من مزاولة أعمالهم دون إلحاق الضرر بالنظم البيئية، التي أولتها الوثيقة اهتماماً خاصاً في أكثر من مادة، بل وأفردت لها مادة خاصة (مادة 46) تنص على حق الفرد في بيئة صحية وسليمة، وحمايتها واجب على الدولة بما يحقق المعادلة بين الاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة من جانب، وضمان حقوق الأجيال المقبلة من جانب آخر.

5- في ضوء المكانة الثقافية التي تشغلها مصر بتراثها وآثارها، فقد خصصت الوثيقة فصلاً مستقلاً للمقومات الثقافية ألزمت الدولة بمقتضاه الحفاظ على الهوية الثقافية لمصر بروافدها المتنوعة، مؤكدة أن الثقافة حق لكل مواطن، وتشجيعه لحركة الترجمة من العربية وإليها، فضلاً عن إلزام الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها وجعل الاعتداء عليها جريمة لا تسقط بالتقادم. كما أفردت مادة خاصة بتراث مصر الحضاري والثقافي المادي والمعنوي وألزمت الدولة بالحفاظ عليه وصيانته.

6- في خضم ما واجهته مصر على مدى العقود الماضية من تفشي الفساد وانتشاره، فقد حرص الدستور من خلال النص في مواد مفصّلة وبصورة واضحة على مكافحته، فقد ألزم الدولة، في المادة (218)، بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد واجتثاث جذوره وتعزيز قيم النزاهة والشفافية بين المواطنين. كما حرص الدستور على إزالة كل العقبات التي تحول دون تمكين أجهزة الرقابة من القيام بواجبها على أكمل وجه.

7- فتح الدستور الباب أمام المصالحة الوطنية، فلم يُقص أحداً ولم يعزل مجموعةً أو حزباً، كما فعل دستور ،2012 بل جعل الأمر كله موكولاً إلى القضاء في تأكيده على ترسيخ دولة القانون وسيادته.

8- رسّخ الدستور مبدأ المساواة بين المواطنين كافة، فقد نصت المادة (35) على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. كما جعل التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، وأوجب على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز.

9- أكد ضمانة حرية الإعلام، فقد نصت المادة 212 على إنشاء هيئة مستقلة للصحافة تقوم على إدارة المؤسسات الصحافية المملوكة للدولة وتطويرها، وتنمية أصولها وضمان تحديثها واستقلالها وحيادها والتزامها بأداء مهني وإداري واقتصادي رشيد، وبذلك تُنزع الصحافة القومية من أحضان الأنظمة الحاكمة أياً كان اسمها أو انتماؤها، لتتحول إلى صحافة قومية مستقلة تؤدي دورها بعيداً عن سلطة النظام الحاكم في الدولة، وتتكامل هذه المادة مع ما ورد في المادة 27 التي أكدت التزام الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحافية ووسائل الإعلام المملوكة لها بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة، وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام.

وبقيت ثلاث قضايا لم يتم النص عليها في الدستور وهي:

1- طريقة انتخاب البرلمان، هل تكون بالنظام الفردي أم بالقوائم النسبية؟

2- تحديد كوتا لتمثيل العمال والفلاحين والمرأة والشباب والمسيحيين وذوي الاحتياجات الخاصة، بما يضمن تمثيلهم تمثيلاً ملائماً.

3- أيهما الأسبق الانتخابات الرئاسية أم البرلمانية؟

وحول هذه الانتخابات، يقول الخبراء إن السلطة الجديدة ترى في هذا الاقتراع وسيلة للحصول على مبايعة شعبية. وتنقل وكالة الأنباء الفرنسية عن أندرو هاموند، الخبير في المجلس الأوربي للعلاقات الخارجية، قوله: (إنهم بحاجة إلى اقتراع شعبي بالثقة يتيح للفريق أول السيسي الترشح للرئاسة إذا ما قرر ذلك).

من جانبه يؤكد إسكندر عمراني، مدير إدارة شمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، أن الاستفتاء (اختبار لنظام ما بعد مرسي، أي للنظام الجديد القائم). ويشير إلى أن هذا استفتاء (يتم تقديمه بوضوح بهذه الطريقة من قبل النخبة الحاكمة).

بينما يعتبر آخرون، أن هذه الانتخابات قد طوت صفحة حكم جماعة (الإخوان المسلمين) بإقبال لافت على المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور المعدّل، ما يعزز شعبية الجيش ويمنح مشروعية شعبية لعزل الرئيس السابق محمد مرسي، ويسحب من يد الجماعة الورقة التي يتمسكون بها وهي (ورقة الشرعية الانتخابية). وقد تحدى المصريون مخاوف العنف واقترعوا بكثافة في الاستفتاء الذي شهد طوابير امتدت عشرات الأمتار أمام لجان الاقتراع، خصوصاً في المدن الكبرى. ووجه الجيش في بيان (تحية) إلى الناخبين، قائلاً إن (كثافة الحضور مبعث فخر للقوات المسلحة). وإذا كان دستور 2012 يعكس فلسفة الإخوان في الحكم، فإن دستور 2014 يعكس فلسفة النظام الجديد القائم على تحالف بين الجيش والقوى الوطنية، فالأول منح مرسي والإسلاميين سلطات كبيرة لتثبيت أقدامهم في الحكم الجديد، مع محاولة لاسترضاء العسكر بمنحهم استقلالاً مؤثراً، في حين أن الدستور الجديد هو نتاج تحالف من داخل القوات المسلحة والقوى الشعبية، الأمر الذي أعطى نوعاً من التوازن بين الجيش وباقي القوى الوطنية. والملاحظ أنه لم يعلن أي حزب سياسي في مصر عن رفضه الدستور، باستثناء (حزب مصر القوية)، الذي يتزعمه القيادي المنشق عن الإخوان والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية عبد المنعم أبو الفتوح.

إن مصر المرهقة اقتصادياً واجتماعياً من تصرفات الطبقة السياسية الفاسدة التي نشأت حول السادات ومبارك، لا يمكنها تحمّل إرهاق سياسي يزيد من صعوبات الحياة في ظل صراعات مستمرة وأعمال عنف وإرهاب، وتحتاج الآن إلى استقرار سياسي وتوافق وطني كي تتمكن من المضي بالعملية السياسية بطريقة سلسلة، وإعادة بناء علاقاتها الدولية والإقليمية على نحو يعيد للقاهرة مكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي،وهذا ما سيتحقق حسب اعتقادنا مع نجاح المصريين في الاستحقاقين التاليين وهما الانتخابات الرئاسية..والبرلمانية.

العدد 1104 - 24/4/2024