لقاء ميونيخ وبلورة مقدمات الحل السياسي للأزمة السورية

اتخذت عسكرة الصراع وتعقيدات الأزمة السورية منحى خطيراً في الشهور الثلاثة الأخيرة، ألقى بظلال قاتمة على فرص التوصل إلى حل سياسي عبر جهود المبعوث الأممي، أو عبر إمكان تطبيق اتفاق جنيف الذي حاولت بعض الدول الغربية تفسير بعض بنوده على هواها.. وعرقلت إقراره في مجلس الأمن. وأدى استمرار تدفق الأسلحة والمسلحين من دول الجوار إلى الأراضي السورية وتمويلهم والتغطية على جرائمهم إلى تدمير للبنى التحتية، وإلى ازدياد عدد الضحايا وأعمال الخطف بين المدنيين، وأظهرت دول الجوار السوري، وخصوصاً لبنان والأردن والعراق، خشية من تمدد أعمال العنف إلى أراضيها.

وجاء لقاء ميونيخ بعيد لقاء جنيف الذي جمع بوغدانوف وبيرنز والإبراهيمي، للوقوف على آخر التطورات الميدانية والمواقف الإقليمية والدولية، ولتحديد آلية لتطبيق وثيقة جنيف، وللتعامل مع المبادرة السورية للحل السياسي التي طرحها رئيس الجمهورية. وحضر اللقاء نائب الرئيس الأمريكي بايدن، ووزير الخارجية الروسية لافروف، والأخضر الإبراهيمي المبعوث الأممي، كما عقدت على هامش اللقاء مباحثات بين كل من وزير الخارجية الروسية لافروف والخارجية الإيرانية صالحي، وبين رئيس الائتلاف الوطني السوري معاذ الخطيب. وبرزت خلافات روسية أمريكية حول مضمون وثيقة جنيف، وحول انضمام إيران والسعودية إلى مساعي الحل السياسي الذي بات هدفاً مشتركاً لمعظم الدول المعنية بالأزمة السورية.

وكشف وزير الخارجية الروسية لافروف في كلمة له أمام اجتماع للأمن في ميونيخ أن تغيير أنظمة شرعية بالقوة والتدخل الخارجي، لا يوفران الاستقرار.. وتشجيع المجموعات الإرهابية وتسليحها يشكل خطراً على الجميع، ورأى أن بعض الدول التي وقعت اتفاق جنيف لم تف بتعهداتها، ولو فعلت لكانت الأزمة السورية قد وجدت طريقها إلى الحل منذ زمن.

ورحب لافروف بتصريح معاذ الخطيب حول استعداد الائتلاف للحوار مع ممثلي النظام السوري للوصول إلى حل سياسي للأزمة، ووجه دعوة للخطيب لزيارة موسكو من أجل استكمال المباحثات.

وكانت إشارات وتقارير أردنية وسعودية ومصرية قد لفتت إلى ضرورة البحث عن حل سياسي يستند إلى اتفاق جنيف، لأن استمرار عسكرة الصراع يحمل إلى المنطقة تداعيات خطيرة أقلها النزوح، وأخطرها اتساع التطرف، وتمدد عمليات المجموعات الإرهابية، وانتشار الفوضى في المنطقة بأسرها.

وظهرت، بالتزامن مع انعقاد لقاء ميونيخ، تباينات في مواقف المعارضات السورية في مؤتمرين عقدا بالتزامن في جنيف وباريس: الأول ضم هيئة التنسيق الوطنية وأحزاباً وقوى وتيارات تشاركها الرؤية الداعية إلى وقف العنف ورفض التدخل الخارجي، والانتقال إلى حوار سياسي شامل يؤمن التغيير الديمقراطي السلمي. والثاني ضم قوى الائتلاف الوطني السوري الذي واصل رفض الحوار مع النظام السوري، وطالب بدعم مالي وتسليحي بحسب وعود سابقة اتهم الدول التي قطعتها بالتخلي عن المعارضة.

ونعتقد أن حراكاً إقليمياً ودولياً متسارعاً بات يحتل واجهة المشهد الآن، وتراجع الدور التركي والقطري، وجرى اصطفاف جديد في (مجموعة أصدقاء سورية)، إذ تغيرت مواقف تونس والإمارات ومصر، وانشغلت فرنسا بالتدخل في مالي، وأحرج تدخلها دولاً عديدة في آسيا وإفريقيا. وبدأت بريطانيا وألمانيا تتلمسان خطر اتساع التطرف على مصالحهما.. وظهرت مراجعة لثغرات السياسة الخارجية الأمريكية في عدد من الملفات، مثل العراق وأفغانستان والدرع الصاروخية وليبيا والشرق الأوسط. وهذه المتغيرات والاصطفافات أوجدت شروخاً داخل (الائتلاف الوطني السوري)، وأضعفت التيار المتطرف داخله وأحرجت داعميه.

ولقاء جنيف بين بايدن ولافروف برغم الخلافات التي برزت بين المسؤولين حول عدد من الملفات، يعد تحضيراً للقمة المرتقبة بين الرئيس الأمريكي والروسي بعد أسابيع، ويتوقع أن توضع خلالها اللمسات المشتركة بشأن انعقاد مؤتمر جنيف الثاني، وإقرار وثيقة جنيف بصيغتها النهائية والملزمة في مجلس الأمن. ويبدو أن توافقاً على مسألة بهذه الأهمية شغلت المنطقة ومعظم العالم لسنتين، لن يمر قبل تحقيق توافقات على ملفات متصلة بالشأن السوري وبالمناطق الساخنة القريبة، مثل الملف النووي الإيراني وسبل معالجته، والدرع الصاروخية، وتوسيع الناتو، وسباق التسلح، وقضايا كثيرة لا تهدد مصالح القطبين الكبيرين وحدهما، بل تهدد الاستقرار العالمي.

ونرى أن توسيع دائرة الحوار الوطني، ومشاركة أطياف واسعة سياسية وشبابية واجتماعية ونقابية فيه، وإدارته بطريقة بعيدة عن الهيمنة والإرادوية المنفرتين، هي الآلية القادرة على تأكيد تماسك المجتمع السوري، وقدرة السوريين على اتخاذ القرارات الصائبة المتعلقة بمستقبلهم، واجتذاب أطياف المعارضة السلمية إلى الحوار وإشراكها في إدارته، وتوفير ضمانات لها ومساحات لعرض وجهات نظرها دون إقصاء أو تخويف، هي السبل الكفيلة بعزل الأطراف المتعنتة، وفضح جرائمها، وشل محاولاتها تعطيل الحل السياسي.. وقد أثبتت التجربة أنه كلما اتسعت الحوارات ضاقت دائرة العنف، وكشفت مرامي منفذيه وداعميهم.

العدد 1107 - 22/5/2024