النفاق والتدخل الغربي… أوكرانيا إلى أين؟!

تتسارع الأحداث في أوكرانيا، بما يسابق الزمن والكتابة حولها، وتعيد إلى الذاكرة أحداث (الثورة البرتقالية) عام ،2004 التي لم تعمر بضع سنوات، وسقط رموزها في انتخابات عام2009. أما الأحداث الراهنة والمستمرة، خلافاً لسابقتها البرتقالية، والتي احتل أنصارها الساحات الرئيسية في العاصمة كييف، والعديد من مدن غرب أوكرانيا، ونجاحهم في استبدال الرئيس المنتخب آنذاك فيكتور يانكوفيتش بدعم أمريكي – أوربي فاقع، فإنها تجاوزت الحالة الاجتماعية السلمية وتعطيل الحياة المدنية في العاصمة، إلى استخدام السلاح وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى واحتلال مؤسسات الدولة ومبانيها، وتماثلت مع سابقتها في حجم الدعم الأوربي والأمريكي المقدم للمعارضة.

ورغم أن الثورة البرتقالية لم تستطع خلال سنوات حكمها، حل إشكاليات أوكرانيا الاقتصادية، أو فك ما تبقى من تكامل اقتصادي روسي- أوكراني موروث عن الحقبة السوفييتية، فإن حكومة الرئيس يانكوفيتش لم تحل أيضاً هذه الصعوبات، وظلت أوكرانيا في الخانة الوسطية، بين مشروع (الشراكة الشرقية) الأوربي، المقترح على عدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة، وبخاصة أوكرانيا، وبين تعزيز العلاقات الاقتصادية وغيرها مع دول رابطة الكومنويلث وهيئاته الأكثر فاعلية (منظمة الأمن والتعاون الجماعي) و(الاتحاد الجمركي الأوراسي) الذي يضم روسيا، بيلاروسيا، كازاخستان، واقترح على أوكرانيا أيضاً (ثاني أكبر الجمهوريات السوفييتية السابقة).

ورغم ثقل أوكرانيا وموقعها الجيوسياسي الهام للكومنويلث وروسيا تحديداً (تمثل مع جارتيها روسيا وبيلاروسيا الدول السلافية الثلاث)، فقد ازدادت الأمور مع أوكرانيا تعقيداً، إثر رفض الرئيس يانكوفيتش في قمة فيلنوس الأخيرة التوقيع على اتفاقية الشراكة التجارية مع الاتحاد الأوربي، نظراً لما توفره من مكاسب اقتصادية وتنافسية وتبعية للاتحاد، ومن إضعاف لهذه القدرات الأوكرانية وغيرها من الشروط اللامتكافئة، وفي المقابل لم يقدم يانكوفيتش على اتخاذ خطوات جدية للتقارب مع روسيا والكومنويلث عموماً، وخاصة مسألة (الاتحاد الجمركي الأوراسي).

وعلى الرغم من تقديم روسيا مساعدات عاجلة لإنقاذ الاقتصاد الأوكراني وانتشاله من أزمته (قدرت بـ16 مليار دولار، وتخفيض سعر الغاز الطبيعي المصدر إلى أوكرانيا من 400 دولار إلى 268 دولاراً لكل ألف متر مكعب)، فإن الدول الغربية واصلت ضغوطها الرسمية على أوكرانيا رئيساً وحكومة وبرلماناً، ساهمت في إشعال فتيل الاحتجاجات الجماهيرية، التي انحصرت في عدد من مدن غرب أوكرانيا، وبعض ساحات كييف.. ولهذا أسبابه التاريخية والإثنية، وموروثات الحرب العالمية الثانية أيضاً (إعادة رسم الحدود الأوربية آنذاك)، واستمرار الاستقرار والهدوء في شرق أوكرانيا وجنوبها ووسطها نسبياً.

وهذا ما يعكس واقع الحالة الديمغرافية القومية والإثنية من جهة، واستخدامه ورقة ضاغطة أوربياً وأمريكياً، وبخاصة في غرب البلاد وبعض أحياء العاصمة من جهة ثانية، إضافة إلى مخاطر هذه الحالة المفتوحة راهناً ومستقبلاً على احتمالات عديدة.

بدايات التدخل المباشر

وكما أدت السياسة الوسطية اليانكوفيتشية، إلى عدم تحديد واضح لنهج أوكرانيا الاقتصادي، وتالياً السياسي، وطبيعة علاقاتها الخارجية، وخاصة مع دول الجوار، فإن الوسطية وحالة (الارتخاء) و(المهادنة السلبية) التي تعاملت بها السلطات التنفيذية الأوكرانية رئاسة وحكومة، مع عشرات آلاف المحتجين (يبلغ عدد سكان أوكرانيا 50 مليون نسمة) ساهمت في تشجيع المحتجين الذين احتكموا للسلاح وعمدوا إلى تخريب البنى والمؤسسات الحكومية.. كذلك في ازدياد التدخل الأوربي – الأمريكي في الشأن الأوكراني، وصولاً إلى زيارات مسؤولي الاتحاد ونائبة وزير الخارجية الأمريكي فيكتوريا نولاند إلى كييف ولقاءاتهم المسؤولين الأوكرانيين وقادة المعارضة، وجولاتهم التشجيعية للمحتجين في ساحات كييف (وبضمنهم اليهودي الصهيوني برنار ليفي، عرّاب ثورات الربيع العربي، والتدخل السافر في ليبيا، ودعوته المحتجين إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي و(عزل) روسيا)، فضلاً عن اتصالات نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن بيانكوفيتش والمعارضة.

ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما يجري أنه (ليس ثورة، وإنما أعمال شغب وتخريب مدعوم خارجياً)، وطالب وزير خارجيته سيرغي لافروف الدول الغربية في اتصالاته مع نظرائه الغربيين بـ(الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية الأوكرانية.. دعوا الشعب يقرر مصيره).

وازدادت حدة التدخل الخارجي فظاظة عبر دعوة زعماء المعارضة أرسيني باتسينوك، رئيس كتلة حزب باتكيفشينا (الوطن)- حزب يوليا تيموشينكو (السجينة بتهمة الفساد لمدة سبع سنوات)، وأوليغ تياغينيبوك من كتلة سفوبودا (الحرية) اليميني، والملاكم ثم السياسي فيتالي كليتشكو، زعيم حزب أوادار (الضربة) إلى مقر الاتحاد الأوربي، والبحث معهم في تطورت الاحتجاجات وخطوات التنسيق لإنقاذ أوكرانيا أوربياً!

قادة (أوربا) والولايات المتحدة الحريصين على الحرية والديمقراطية.. إلخ، ضمن شروط (اتفاقية التجارة)، طالبوا بالاستجابة لمطالب الجماهير الأوكرانية الواسعة (أي القسم المحتج في بعض أحياء العاصمة وعدد من مدن غرب البلاد)، كما طالبوا بإطلاق سراح تيموشينكو، وصولاً إلى تعديل الدستور الأوكراني، وغيره من المطالب التي تمس صلاحيات البرلمان والحكومة والرئيس المنتخبين جميعاً بطريقة ديمقراطية وباعتراف دولي.

وأدت حالة التعامل الوسطي ليانكوفيتش، مرة أخرى، إلى إقالته رئيس وزرائه نيقولاي أنزروف، في محاولة للوصول إلى حلول وسطية ظاهرياً، ساهمت في بلبلته واضطراب في أوساط حزب الأقاليم الحاكم، وتالياً استقالة رئيس البرلمان أيضاً، والوصول إلى تفاهمات أولية تجلت في تشكيل حكومة موسعة خلال 10 أيام، تحظى بثقة الشعب الأوكراني! والتحقيق في أحداث العنف بإشراف السلطة والمعارضة وبإشراف الاتحاد الأوربي وروسيا. وفور التوقيع على هذا التفاهم، الذي حمل العديد من التنازلات الحكومية- الرئاسية، مقابل إخلاء المحتجين للساحات والمباني الحكومية التي احتلوها بقوة السلاح، وإطلاق سراح المعتقلين خطوة نحو حل مسألة التظاهر والتخريب.

التصعيد صعد المحتجون من مطالبهم وأبرزها:

– مطالبة البرلمان بتقليص صلاحيات الرئيس لصالح البرلمان، صوّت لصالحها 287 نائباً من 450 نائب (الرادا- البرلمان)، ونقل صلاحيات وزير الداخلية إلى أرسين أماكوف بالوكالة، خلافاً لدستور الثورة البرتقالية نفسها، الذي يحصر مسألة وزير الداخلية بالرئيس فقط.

– إقالة وزراء التعليم والصحة والخارجية والعلوم، كذلك إعادة النظر بقانون السياسة اللغوية، الذي ينص على التعامل باللغة المحلية في المقاطعات التي تتجاوز فيها نسبة الأقليات 10%، وتمس عملياً 13 مقاطعة من مجموع 27 مقاطعة أوكرانية، وخاصة الشرقية والجنوبية الصناعية (أعلن نوابها عن مسؤوليتهم عن توفير النظام في مقاطعاتهم)، وغالبيتهم من الناطقين باللغة الروسية). صوّت لصالح هذه القرارات 232 نائباً من .450. فضلاً عن تكليف رئيس البرلمان الجديد ألكسندر تورتشينوف بصلاحيات الرئيس مؤقتاً، وتحميل الرئيس يانكوفيتش مسؤولية الأحداث وضرورة محاكمته. وقد دعت السجينة السابقة تيموشينكو أنصارها في ميدان الاستقلال يوم السبت الماضي إلى ضرورة مواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق أهدافها، وصولاً إلى المطالبة بحظر نشاط حزب الأقاليم (الحزب الحاكم) والحزب الشيوعي والقوى اليسارية الأخرى، وإعلانها من ساحة الاستقلال عن (برنامج) مواصلة هذه الاحتجاجات أيضاً، هذا في الوقت الذي أوصلت فيه (المهادنة) والوسطية (المشروخة) والتراجعات أمام المحتجين إلى تباينات في صفوف الحزب الحاكم، وهذا ما أثبتته التصويتات البرلمانية، وتسمية أعضاء في الحزب يانكوفيتش بالخائن.

أوكرانيا إلى أين؟

هذه التطورات تفتح الحالة الأوكرانية على احتمالات عديدة منها:

– مخاطر انقسام أوكرانيا بين غربها من جهة وشرقها وجنوبها من جهة ثانية، أو الوصول إلى مساومات ما (سيفعل التدخل الخارجي فعله فيها) حول طبيعة مستقبل البلاد برمتها.

– ازدياد التباين والتعارض بين الحالة القائمة بالفعل في أوكرانيا وروسيا عموماً، وانعكاساتها على العلاقات التاريخية القومية والإثنية خاصة (السلافية) مع الغالبية السكانية الأوكرانية، وبالتالي مع الكومنويلث وهيئاته.

– محاولة تشكيل حكومة من صفوف المعارضة فقط، والتنصل عملياً من الاتفاق الموقع بين رموزها والحكومة بإشراف الاتحاد الأوربي وروسيا، الذي ينص على حكومة موسعة تشارك فيها كل أطياف وقوى الشعب الأوكراني.

– (دغدغة) الاتحاد الأوربي قادة المعارضة، وبضمنها تخفيف شروط انضمام أوكرانيا لاتفاقية الشراكة التجارية، خطوة نحو ضمها إلى الاتحاد الأوربي، في محاولة لتوسيع الشرخ بين أوكرانيا وشقيقاتها السوفييتية السابقة، استمراراً لنهج النفاق والازدواجية الذي يمارسه الاتحاد في تعاطيه مع الإشكاليات العديدة الأخرى.

– استفادة الاتحاد من وجود عنصر ضاغط على روسيا في خاصرتها الرخوة الجنوبية الغربية، وأهميتها القصوى روسياً، واستخدامها مثالاً لتشجيع جمهوريات سوفييتية سابقة لم توافق على اتفاقية التجارة المشتركة.. خطوة نحو إبعادها عن روسيا أيضاً.

– إشغال روسيا في إشكاليات فضائها السوفييتي السابق، وفي أطر الكومنويلث على حساب دورها الصاعد والفاعل دولياً، وخاصة في السنوات الماضية، والتشويش على هذا الدور قارياً ودولياً.

– ما كان لهذه الأحداث أن تقع لو عالجت أوكرانيا صعوباتها واستفادت من تجربة الثورة البرتقالية عام ،2004 وابتعدت عن الوسطية اقتصادياً وسياسياً من جهة، وتعاملت بجدية ومسؤولية مع المشاغبين ومع التدخل الخارجي الفظ من جهة ثانية.

إذ يضاف هذا النفاق الأوربي – الأمريكي حول الديمقراطية إلى إشكاليات أخرى ليست أقل أهمية، وتتلخص في الدرع الصاروخي، وفي الأزمة السورية والملف النووي الإيراني، وفي غض النظر عن مشاكل دولية أخرى ساطعة يتجنب الاتحاد وأمريكا التعاطي المتوازن معها، ولهذا دلالاته ومغزاه أيضاً، ويفترض أن تمثل درساً جديداً للآخرين في تعاطيهم مع إشكاليتهم وصعوباتهم ومع كبيعة علاقاتهم وتحالفهم.

العدد 1107 - 22/5/2024