كي لا تمحى آثارنا.. تعرّف عليها

الزبداني.. حيث تنبع المياه كما تنبع العراقة من كلّ مناطقها

الزبداني.. مدينة تتربع على خاصرة دمشق الغربيّة، تُعرف بكل روعتها من خلال تناغم سهلها الأخضر مع جبالها الشامخة التي تحيط بها من كل صوب، ففيها يقع نبع بردى موطئ تغزّل الشعراء.. وفيها تنبع المياه من جسد الأرض كما تنبع العراقة من كلّ مناطقها، فما هو تاريخ الزبداني؟ ومن أين تستمد تلك العراقة؟ مع العلم أن انتشار الصيت عنها على أنها مصيف قد أدّى إلى تغطية ما تتمتع به من آثار تاريخية.. وقد تهشّمت بسبب الإهمال الكبير لها من ناحية وعدم توفر الوعي الكافي لدى السكان، للحفاظ عليها..

ومن هذه الآثار:

قلقعة الكوكو:

تقول وثائق مديرية الآثار والمتاحف بأن موقع الكوكو عبارة عن هضبة صخرية تنتشر عليها بقايا منشآت أثرية محفورة في الصخر تعود للعصر الروماني، أهمها مصلى محفور في الصخر بعرض 250 سم وعمق 180 سم يتقدمه عمودان يعلوهما قوس نصف دائري في أعلاه كتابة يونانية مهشمة،

(وأمام المصلى درج حجري وبجانبه بقايا جدار فيه باب، وحول هذا المصلى توجد مجموعة من بقايا الأعمدة والقواعد والمذابح الحجرية بعضها عليها نقوش كتابية، وحول الموقع توجد بعض المدافن المحفورة في الصخر أيضاً) ما بين قوسين غير موجود حالياً، إذ إن هذا الوصف يعود كما الصورة القديمة للعام 1963.

يشير كتاب لمحمد خالد رمضان بعنوان (الزبداني.. تاريخ وحياة) إلى أن تسمية الكوكو تعود للمعبد الموجود فيها، وأصل التسمية كوكوس اليونانية تعني الحبوب. وجعل هذا المعبد مكاناً لعبادة إله الحبوب، ويذكر رمضان أنه في هذا الموقع وجد عمود أثري نقل إلى المتحف! عليه كتابة تشير إلى الإله زاباد أو زافاد، وهو إله الخصب وهبة الشمس حيث المعبد يواجه الشرق مباشرة، وعلى أحد الأعمدة وجدت كلمة كوماتاس، وتدل على اسم راعي غنم في الأساطير اليونانية القديمة وكان عاشقاً للآلهة أراتو إلهة الشعر والأدب وكان يلحن لها دائماً فأحبته ومنحته الخلود.

إلا أن هذه الأرض المرتفعة على الجبل الغربي للزبداني تابعة بطريقةٍ لنبيهة جبارة زوجة شكيب الجابري، خلال الفترة الفاصلة بين 1977 وبين1997 جرت مناوشات عديدة بين مديرية الآثار والمحافظة والبلدية واتحاد الفلاحين ووزارة الأوقاف والشرطة وعدد من الأهالي من جهة وشكيب الجابري وورثته (من امتلكوا فيما بعد من جهة أخرى لإيقاف الجابري عن إجراء أي تغيير في القلعة، رُفعت شكاوى، وجهت كتب، كُتبت ضبوط، سُجلت اعتراضات…إلخ فماذا كانت النتيجة؟ أُخذت تعهدات فقط!

وتم إنشاء بناء من طابقين غير مرخص وبناء مسبح وإشادة العديد من المصاطب والتصوينات الحجرية، كل ذلك على مقربة بضعة أمتار من الأثر الوحيد الظاهر للعيان في القلعة، وعند الاستفسار عن ذلك من رئيس مجلس المدينة رد المخالفات إلى مثيلها، التي كانت تحصل خلال دورات المجلس السابقة.

جامع الجسر وحمّام السوق بجواره

المسجد القديم الحجريّ الذي تٌروى الحكايات عنه، أنه كان عبارة عن كنيسة ثم حوّل على مسجد، وقد كان قديماً المسجد الأساسي للبلدة. الذي تُجرى فيه معظم المناسك الدينية، لكنه طوّر بأسلوب لم يحافظ على عراقته وملامحه التاريخيّة من الداخل، كذلك كان بجانبه على ضفّة النهر في الساحة الأساسية للمدينة سابقاً (حمام سوق) قديم وحجريّ وذات روعة وفن معماريّ أخّاذ، ولكنّ الكارثة الكبرى كانت عندما تم هدمه!

أجل تمّ هدمه، وبُني عوضاً عنه مؤسسة استهلاكية حكومية بلا قيمة تذكر، دون رقابة أو محاسبة، والكثير من كبار السن في المدينة يتحدثون عن هذا الحمّام على أنه كان من أروع الأبنية القديمة في المدينة، وأنّ هدمه يعتبر جريمة كبرى بحقّ تاريخها، وكذلك التغيير العشوائي على المسجد الذي بجانبها ناتج عن إهمالٍ في تخليد تاريخ المدينة.

وقد كانوا يتحدثون عن تلك الساحة على أنها كانت الأجمل، النهر يجري وحوله المساحات الخضراء وإلى جانبه حمّام السوق الحجريّ وكذلك المسجد الحجريّ.. أما الآن فقد تغيّرت معالمها لتصبح كتلة من الأبنية العشوائية ومؤسسة استهلاكية عوضاً عن مبنى أثريّ، حتى ضفاف النهر، تمّ تضييق مساحته الظاهرة ووُضع له تصوينات بلا جماليّة تذكر أو اهتمامٌ بحسن مظهر ساحة عريقة! لتغدو شيئاً منفصلاً تماماً عن صورها القديمة التي تجسّد الروعة بعينها.

سكة القطار

وهو موقفٌ تابع لقطار الحجاز الذي ينطلق من دمشق، يعود للعصر العثمانيّ، يقع في بداية الجبل الشرقيّ في الزبداني في منطقة المحطّة التي استمدت اسمها من وجود محطة القطار هذه، فهو عدا أنه من المفترض أن يصل المدينة بدمشق فهو يتوغل بأجمل المناطق من المدن المجاورة بين البساتين والسهول وقرب منابع المياه، يتألف من مبنى حجريّ لا يزال قائماً وخزّان مياه على قاعدة قديمة ضخمة وأجزاء من قطار يعمل على البخار، متوقف وموضوع جانباً على التراب بإهمال! كانت المنطقة خلاّبة بالأشجار التي تحيط بها والسكة التي تنتشر بجانبها الأعشاب.. الآن قُطعت الأشجار وتم بناء الأبنية حولها.. وقد أُهملت لدرجة باتت القمامة فيها في كل صوب..

وفي المدينة أيضاً العديد من الأبنية الأثرية التي باتت اليوم مهمّشة وتاريخها غير معروف.. ما يثير الحسرة والغضب معاً!

وفوق كل هذه الكوارث التي حلّت على آثار المدينة الجميلة، فقد طالتها يد الحرب الدائرة في سورية أيضاً، فقد احترق جزء من قلعة الكوكو وأصيب جامع الجسر بعديد من قذائف الهاون وآثار الاشتباكات.. كما أن محطة القطار التي كانت لا تزال تقف قليلاً على قدميها باتت مهجورة أكثر ومُهملة أكثر..

ونحن دوماً نتساءل ما الذي يجعل من مدننا تبدو بمظهر متخلّف؟ سؤال قد تتعدد أجوبته، ولكن يبقى الأمر الذي لا نقاش فيه أن إهمال العديد من الجهات والسكان بصنع الجمال والحفاظ على التاريخ وجعل الحضارة والعراقة من سمات أي مدينة من آخر اهتمامنا هو السبب الرئيسي والطامة الكبرى التي تنعكس لاحقاً على النفوس وتزرع فيها العشوائية والقبول بالأمور الأقل من عاديّة.. ولا يسعنا حينها سوى أن نتحسر على ما راح ولا يمكن أن نردّه على ما كان عليه.

العدد 1107 - 22/5/2024