من الصحافة العربية العدد 617

فؤاد الشمالي.. شيوعي لبناني من مصر

 

مع بداية القرن التاسع عشر كانت مصر على موعد مع محمد علي باشا ليبدأ في استنفار قواها وبناء دولة عصرية حديثة، وقد استطاع ذلك الرجل صاحب العقلية الاستراتيجية (قال عنه ماركس: إن تحت عمامته رأساً حقيقياً) أن ينهض بمصر إلى مصافّ الدول العظمى في حينها في أقل من أربعة عقود، وذلك من خلال خطة بدأها باستقدام خبراء أوربيين في مختلف المجالات (التسليح والطب والزراعة والمعمار وغيرها)، وقام بإرسال طلاب من الفلاحين المصريين الدارسين في الأزهر إلى أكثر من دولة أوربية لتحصيل العلوم والمعارف، واستطاع في تلك المدة الوجيزة من عمر الشعوب أن يشيّد دولة عصرية حديثة تمتد من السودان إلى مرتفعات طوروس، واستمرت عملية التحديث بعد رحيله بوتائر مختلفة، وحقق عصر إسماعيل قفزة نوعية في هذا الشأن، ومع تقدم النهضة أصبحت مصر محط الطامحين، وتدفقت الهجرات من الشرق والغرب، ولكن كان للمسيحيين القادمين من الشام طعم مختلف.

أحصى جون بارنج في 1840 عدد 5 آلاف مهاجر مسيحي إلى مصر، كان نصفهم من الموارنة، ومع بداية القرن العشرين فاقت أعداد المهاجرين الشوام إلى مصر 100 ألف، عمل أغلبهم في التجارة والصناعات الحرفية كالطباعة والطب والمحاماة وإقامة الفبارك الصغيرة وإنشاء المدارس والصحف، فأصدر سليم وبشارة تكلا (الأهرام) في 1876 وأسس يعقوب صرّوف (المقتطف) في ،1885 وأصدر يعقوب وصروف نجم (المقطم) في ،1889 وسليم نقاش (المحروسة) ومحمد رشيد رضا (المنار) وجورجي زيدان (الهلال) وعشرات غيرها من الصحف والمجلات، وبرز منهم أدباء وفنانون، كخليل مطران ومي زيادة وعائلة البستاني ويوسف معلوف وجورج شحادة وأندريه شديد وفرح أنطون وألبير قصيري وأمين معلوف ومئات غيرهم، ومع بداية القرن العشرين قدمت إلى مصر أسرة (الشمالي) من لبنان بصحبة ابنهم الصغير (فؤاد).

أدت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) إلى أزمة اقتصادية حادة في مصر، وزادت حدة القمع والاستغلال للعمال والكساد الاقتصادي وتفاقم البطالة إلى تراجع حاد في الحركة العمالية، فانخفض عدد الإضرابات وتقلصت عضوية النقابات، وفى المقابل انتعشت الرأسمالية المصرية الحديثة النشأة نتيجة انقطاع طرق التجارة وتراجع الواردات من السلع، وبمجرد انتهاء الحرب بدأت موجة عالية من الإضرابات العمالية والاعتصامات شكلت تمهيداً لثورة ،1919 وتبلور اتجاه سياسي اشتراكي واضح، فتشكل (الاتحاد العام للعمل) في شباط 1921 من عدد من النقابات العمالية الناشئة، بعضوية بلغت 3000 عامل ارتفعت في مدى محدود إلى 20 ألف عامل، وبعد أقل من ستة أشهر تم تأسيس (الحزب الاشتراكي المصري) نتيجة للقاء بين مجموعة من المثقفين الليبراليين ذوي الرؤية الاجتماعية والفكر الاشتراكي، على رأسهم سلامة موسى وعبد الله عنان وعلي العناني وعزيز ميرهم، ومجموعة أخرى من المناضلين الحركيين يتقدمهم جوزيف روزنتال ومارون أنطون وفؤاد الشمالي، وبعد صراع قصير تحول الحزب الاشتراكي إلى الحزب الشيوعي واكتسب عضوية الكومنترن.

ولد فؤاد الشمالي عام 1894 في قرية السهيلة بمنطقة كسروان في جبل لبنان، وتلقى دراسته الأولى في مدينة (بيسان) بفلسطين حيث كان يعمل والده، وبعد رحيل الوالد قررت الأسرة الانتقال إلى مصر حيث أكمل دراسته، ولكنه اضطر للعمل بسبب الظروف الاقتصادية للأسرة وعمره 16 عاماً (1910) في مصنع للتبغ بالإسكندرية، وانضم إلى نقابة عمال التبغ المشكلة حديثاً، وسرعان ما أصبح رئيس تلك النقابة وساهم بشكل فعال في تأسيس أول اتحاد للعمال المصريين، وفي تأسيس الحزب الشيوعي المصري، ولعب فيه دوراً نضالياً متميزاً، فقام الإنجليز بطرده من مصر، وسافر الشمالي إلى لبنان عام 1923حاملاً معه تجربته السياسية والنضالية في مصر وحلماً جارفاً بتأسيس منظمة شيوعية، وبمجرد وصوله أسس (النقابة العامة لعمال التبغ). وبمشاركة رفيق نضاله يوسف إبراهيم يزبك قام بتأسيس (حزب الشعب) كواجهة للعمل الشيوعي، بعدئذ بقليل انتقى وصديقه 12 من أفضل الكوادر ليعلن تأسيس الحزب الشيوعي السوري في 2 أيلول 1924 ليشمل سورية ولبنان وفلسطين والأردن، ولم يكف الرجل عن الإنتاج النظري فقام في 1928بتأليف كتابه الهام (التفصيلي) (نقابات العمال في لبنان). وفي العام نفسه انتُخب سكرتيراً عاماً للحزب، لكنه تعرض لمؤامرة نتيجة الصراعات الداخلية بالحزب وتواطؤ من رجال الكومنترن أدت إلى فصله من الحزب في 1932 وتولى خالد بكداش قيادة الحزب، وفى 1935 أصدر كتابه (أساس الحركات الشيوعية في البلاد السورية اللبنانية) وكتاب (الاشتراكية) عام 1936.

بعد رحلة نضال لأكثر من عقدين قضاها فؤاد الشمالي مطارداً وفي أقبية السجون بين مصر ولبنان، رقد إلى الأبد فقيراً ومريضاً ووحيداً في وطنه يوم 19 أيلول عام 1939.

رياض حسن محرم

(الحوار المتمدن)27،/2/2014

العدد 1105 - 01/5/2024