نار «تقسيم»… توقد الصراع بين قابيل وهابيل في تركيا

حين أصبح رجب طيب أردوغان رئيساً للحكومة التركية، في آذار 2002 وضعت على طاولته وثائق لتقارير استخباراتية عُمرها سنة، تخلص إلى كون جماعة الخدمة، التي يتزعمها فتح الله غولن، تشكل خطراً كبيراً على أمن تركيا القومي الداخلي والخارجي، إلا أن أردوغان وضع الملف جانباً وقال كلمته الشهيرة: (لن أواجه جماعة تسجد لله)..

وفي يوم 28 أيار2013 اندلعت احتجاجات منتزه (غيزي) بميدان تقسيم في إسطنبول، تزعّمها ناشطون بيئيون غاضبون من قرار البلدية إزالة أشجار من المنتزه وبناء مركز تجاري مكانها، إلا أن الاحتجاجات امتدت لتشمل مدناً أخرى، وتطورت كي تصبح مظاهرات مناهضة لسياسات حكومة أردوغان، قبل أن تتحول إلى أعمال شغب، بعد تدخل قوات الشرطة لتفرقها مستخدمة القوة المفرطة.

الحكومة التركية قالت حينذاك إن الاحتجاجات شارك فيها أعضاء من منظمات غير شرعية، في إشارة إلى جماعة غولن، وإن أحداث العنف أشعلتها تلك المنظمات التي ألحقت أضراراً بممتلكات عامة وخاصة.

وخرج أرودغان، بعد ذلك، وصرح أن أحداث تقسيم مكيدة من المكائد التي تسعى إلى إسقاط إرادة الشعب والانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً. فيما قال نائب رئيس الوزراء التركي، بولنت أرينتش، إن الجماعة تسعى لتدمير الدولة، مشيراً إلى أحداث ميدان تقسيم، بالقول إن (المسألة لم تكن 3 أو 5 شجرات، بل شيئاً آخر).

وفي يوم 17/11/2013 نفّذ قسم مكافحة الفساد المالي في الشرطة التركية حملة دهم واعتقالات في مدينتي أنقرة وإسطنبول هزت الأوساط السياسية والاقتصادية في تركيا، بعد أن تبيّن أن من بين الأشخاص الذين تم توقيفهم أبناء وزراء الداخلية (معمر غولر) والاقتصاد (ظفر شاغليان) والبيئة والتخطيط العمراني (أردوغان بيرقدار)، إضافة إلى رجل الأعمال المشهور علي آغا أوغلو (المقرّب من حكومة العدالة والتنمية ومالك أضخم شركة إنشاءات في تركيا)، والمدير العام ل(بنك خلق) التابع للدولة، ورئيس بلدية الفاتح في إسطنبول، عضو حزب العدالة والتنمية مصطفى دمير، المقرّب من أردوغان، وبيروقراطيين وموظفين في الوزارات الثلاث المذكورة.

وخرج أردوغان بعد ذلك مندداً (بمحاولة قوى مدعومة من بؤر ظلام، داخل تركيا وخارجها، لابتزاز الحكومة وتغيير سياساتها)، مؤكداً أنها (لن تنجح) وأن حكومته (ستتصدى لهذا الابتزاز ولن ترضخ لتهديدات).

وتابع: (تركيا ليست جمهورية موز، لكي يحاول بعضهم التأثير في سياستها من الخارج أو الداخل، والفيصل هو الانتخابات وهي قريبة. وعلى من يريد إسقاط الحكومة أن يلجأ إلى صناديق الاقتراع). وهو ما اعتُبِر إشارة مبطنة إلى جماعة الخدمة المرتبطة برجل الدين النافذ فتح الله غولن، الذي يسيطر أتباعه على سلكي القضاء والشرطة في تركيا.

ولتكون ثالثة الأثافي، فضيحة التسجيلات بين أردوغان وابنه بلال المتهم أيضاً في فضيحة الفساد المالي أيضاً. هذه التسجيلات تضمنت مكالمات بين رئيس الوزراء ونجله بُثّت على مواقع إلكترونية ، ينصح رجل قُدِّمَ على أنه أردوغان لآخر قُدِّمَ على أنه نجله البكر بلال، الذي استمع إليه المدعي العام في قضية الفساد كشاهد، بكيفية التخلّص من نحو 30 مليون يورو. وكان ذلك أول إشارة إلى احتمال ضلوع أردوغان شخصياً في فضيحة الفساد. ليتبعه تسجيل آخر، يطلب رئيس الوزراء فيه من نجله بلال فيه أن يرفض مبلغ 10 ملايين دولار عرضها رجل أعمال، معتبراً المبلغ غير كافٍ. وقال المتحدث الذي عُرِّف عنه على أنه أردوغان: (لا تقبل)، متوجهاً إلى ابنه بالحديث: (لا تقلق، سترى أنه سينتهي به الأمر بإعطائنا ما وعد به).

عملية (17 كانون الأول) أحدثت زلزالاً غير مسبوق في تركيا، إذ إن الاتهامات طالت أردوغان وحزبه في الصفة التي كانت مدعاةً فخر له، وهي نظافة الكف. وسرعان ما اندفع أردوغان للهجوم المضاد. فبعد أسبوع استقال الوزراء الأربعة المتهمون، لكن أردوغان اتهم مباشرةً أطرافاً خارجية، ولا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل، بالوقوف وراء عملية الفساد، بل ذهب إلى الادعاء بأنهما يُريدان الإطاحة به باستخدام أدوات داخلية هي جماعة الخدمة التابعة لفتح الله غولن والتي أطلق عليها تسمية (الدولة المُوازية)، التي تعني أن غولن شكّل دولة أخرى داخل الدولة عن طريق أتباعه الموجودين في جميع المؤسسات (مثل الشرطة والقضاء والتعليم وما إلى ذلك).

رغم كل شيء، فإن عنصر المفاجآت يظل وارداً بقوة. فما حصل من انتفاضة تقسيم، ثم فضيحة الفساد لم تكن في حسبان أحد. كذلك قضية التسجيل الصوتي بين أردوغان وابنه بلال. وبكل تأكيد فإن الساحة السياسية التركية حُبلى بالكثير مما تخبئه من مفاجآت.

وكيفما تطورت الأمور، سواء في الانتخابات البلدية أم الرئاسية أو النيابية، فإن أردوغان بإمكانه البقاء بقوة النتائج الرقمية في السلطة، لكنه لم يعُد قادراً – حسب كثيرين – على إيجاد الحلول لمشكلات تركيا، وبالتالي على إدارتها بشكل جيد. وفي الحالات المُشابهة في الدول الديمقراطية، كما يقول الكاتب التركي جنكيز تشاندار، يستقيل المسؤول الذي يفشل. وإذ أكد تشاندار كلام زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار أوغلو بعد فضيحة التسجيل الصوتي أنه (لا يُمكن أن يكون السارق رئيساً للوزراء)، وأن (على أردوغان إما مغادرة البلاد بمروحية أو الاستقالة)، متسائلاً: هل ما تزال تركيا بلداً ديمقراطياً؟

وفي دلالة أخرى على النفق المُغلق الذي دخله أردوغان، صرح ياشار ياقيش، أول وزير خارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية عام 2002: (إن حزب العدالة والتنمية اليوم افتقد الإبداع والحماسة التي كانت عندما تأسس الحزب). ومن المحقق اليوم أن سلطة أردوغان، بعد 12 عاماً من الحكم، تعبت وترهّلت، وباتت تلك (الصورة – النموذج) من الماضي ومجرّد رسم معلق على الحائط للذكرى.

أردوغان، الذي مازال واثقاً من شعبيّته، اتّهم جماعة الخدمة بالتستر خلف حزبين معارضين، هما حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، مطالباً بالخروج من وراء الستار واللعب في ميدان السياسة بوضوح، وذلك عبر دعوته لغولن بالعودة إلى تركيا، التي غادرها منذ 1999 خلال تجمع انتخابي في بوردور (غرب)، وتحداه أن يواجهه خلال الانتخابات البلدية في 30 آذار المقبل. وقال أردوغان: (أيها الحج، إذا لم يكن لديك ما تخفيه، عد إلى وطنك لخوض معترك السياسة).

وأضاف رئيس الحكومة التركية أمام آلاف من مناصريه: (مارس السياسة، لكن لا تقم بأعمال استفزازية يمكن أن تهدد الأمن القومي والاستقرار في تركيا). وأضاف: (أليست تركيا وطنه أيضاً؟ فليأت إلى أرض الوطن إن كان كذلك، لماذا لا يأتي؟ إن حكومتنا ستحاسب أولئك الذين يعملون على زعزعة أمن تركيا وهم جالسون في بنسلفانيا).

لعنة تقسيم تطارد أردوغان

يوم 16 حزيران 2013 أُصيب الطفل بيركن علوان بجروح بالغة في الرأس أِثر أصابته بقنبلة مسيلة للدموع أثناء خروجه من المنزل لشراء الخبز، فيما كانت الشرطة التركية تُفرق المتظاهرين أثناء احتجاجات تقسيم. وفارق الطفل الحياة يوم الثلاثاء 11 آذار 2014 بعد أن قضى 269 يوماً في غيبوبة سريرية. وإِثر إعلان وفاة الطفل،  خرج مئات ثم آلاف الأشخاص بشكل عفوي إلى الشوارع في 30 مدينة، خاصة في إسطنبول وأنقرة وأسكي شهير (غرب) وأضنة (جنوب) وأزمير (غرب) أو حتى مرسين (جنوب)، منددين بالشرطة التي قتلت الفتى، ومستنكرين ردة فعل رئيس الحكومة وغياب الضمير والوجدان لديه في تعاطيه مع وفاة الطفل، عندما استخف بتداعيات الحادثة، قائلاً إنها مسألة يوم وتمر. واتهم المتظاهرين بمحاولة إشعال الفوضى من أجل التأثير في الانتخابات البلدية في 30 آذار الحالي.

وفرقت قوات الأمن هذه التجمعات مستخدمة الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه فيما رد المتظاهرون برشق الحجارة والزجاجات الحارقة. وبحسب الصحافة التركية أوقفت قوى الأمن أكثر من 250 شخصاً فيما أصيب العشرات بجروح، وأُعلن عن وفاة متظاهر وشرطي خلال المواجهات.

وبعد أن لزمت الصمت، علّقت الحكومة (محرجة) على الأحداث في اليوم التالي (الأربعاء)، من خلال نائب رئيس الحكومة، بولنت أرينتش، الذي قال إنه (من المحزن جداً أن يفارق طفل الحياة في حادث وقع في الشارع.. تركيا في حداد فعلي منذ الأمس (الثلاثاء)).

ويبدو أن موقف الحكومة التركية لم يُعجب أردوغان، فخرج يُعلن يوم الجمعة 14/3/،2014 أن الفتى البالغ من العمر 15 عاماً الذي توفي الثلاثاء متأثراً بجروح أصيب بها خلال التظاهرات الاحتجاجية في حزيران الماضي كان (عنصراً تخريبياً يعمل لحساب تنظيم إرهابي). وقال أردوغان خلال اجتماع انتخابي في غازي عنتاب جنوب شرقي البلاد: (عائلته تقول إنه خرج لشراء الخبز. هذا الأمر لا يتفق مع الواقع). وأكد أردوغان أن الفتى الذي تحول إلى رمز لقمع موجة المظاهرات الاحتجاجية العام الماضي كان يرشق قوات الأمن ب(كرات نحاسية) وأن الشرطة لم تستهدفه. وشدد رئيس الوزراء على أن (هذا الفتى عضو في تنظيم إرهابي)، مشيراً إلى أنه (لم يكن باستطاعة الشرطة معرفة أنه في ال15 من العمر، لأنه كان ملثم الوجه).

وفاة بيركين علوان، أعادت إشعال الشارع التركي المحتقن من الإجراءات التي اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية التركية، من أجل تشديد قبضتها على وسائل الإعلام والحريات العامة، في إطار حربها مع جماعة غولن (صادق البرلمان التركي على قرار بإغلاق مدارس (درس خانة) التمهيدية العائدة لحركة (الخدمة) التابعة لغولن قبل حلول الأول من أيلول 2015)، وآخرها القانون الذي ينظّم عمل جهاز الاستخبارات، والذي أقرّه البرلمان بغالبية أصوات نواب حزب (العدالة والتنمية) الحاكم واعتبرته المعارضة (مفزعاً).

القانون الذي يأتي بعد قانونَي مراقبة الإنترنت وتعزيز سيطرة الحكومة على القضاء، يتيح للاستخبارات تشكيل جهاز للعمليات ضد أي خطر، داخلي أو خارجي، في شكل يوسّع مهمة الجهاز، من جمع المعلومات إلى التدخل مباشرة على الأرض، في عمليات أمنية وعسكرية.

ويمنح القانون جهاز الاستخبارات حصانة كبرى ضد محاكمته وفي مواجهة القضاء والأمن، ويمنع نشر أي وثيقة مُسرّبة، ويسجن من يفعل ذلك 12 سنة. كما يتيح القانون للاستخبارات استخدام كل أجهزة الدولة ومعداتها لمصلحته، والحصول على أي معلومة تتعلق بتقرير طبي عن شخص أو حساب مصرفي له، أو أي تعامل تجاري تمارسه أيٌّ من مؤسسات الدولة، كما يمنحه حق التنصت على أي شخص لأي مدة، من دون الرجوع إلى القضاء، والاطلاع على كل التحقيقات الجنائية، وبضمنها المتعلقة بالفساد والتي تطاول الحكومة.

هذا القانون يبشّر بتحوّل تركيا إلى دولة عنصرية، ويحوّل أردوغان إلى أدولف هتلر جديد ولكن بخلفية دينية قومية مذهبية، الأمر الذي يُنذر بإغراق المنطقة إلى بحيرة من الدم، ويُهدد بإدخالها في دوامات العنف والفوضى، بسبب السياسات الفاشية واللعب على الاختلافات المذهبية والقومية، داخل تركيا وخارجها، التي بدأت تظهر بوضوح في الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط.

العدد 1105 - 01/5/2024