«الجمال العظيم»… احتجاب الثقافة خلف العهر والنفاق

حين تتعمّد طقوس الحياة بمباهج الجمال الحسي، تتوحش القلوب وتتصاعد احتفالية الأجساد لتبلغ أوج غليانها، فتدنس الهيكل والمحراب وتؤذن بطول المَحل والمُحال.. وتغلق مسالك التحليق الوجداني، لتعيد الجموع إلى كهوف البدء المظلمة… ضمن هذا المنحى يستعرض الفيلم الإيطالي (الجمال العظيم/the Great Beauty) للمخرج Polo Sorrentino تفاصيل سقوط الحضارة في نفق الخواء المدقع، مما يجعله أشبه بصرخة يائسة تختصر أربعين عاماً من أزمة الثقافة الإيطالية المعاصرة.

أُنجز الفيلم بحرفية عالية تعتمد رشاقة اللوحات الفنية المغلفة بسريالية جمالية متقنة، واكبت نبض الرواية التي أُخذ عنها. وأُنيط بالبطل/الكاتب مهمة تحريك الأحداث نحو الهدف المنشود، والمتعلق بإفساح المجال لأمل الحلم بخروج نوعي من نفق الغواية الجنسية، والتخبط في حيرة متاهاتها الحالكة، عبر إرساء مشروع رواية بنهاية مفتوحة. وهي تمهيد لولادة تنوع جمالي يبهج الروح والنفس، ويستعيد نبل التعاطف والمحبة والاحترام..

يبتدئ الفيلم بمشاهد نهارية متعاقبة ترصد وضعيات أشخاص وتماثيل، مترافقة بتراتيل كنسية، تنعي الجمود الذي أصاب نسغ الحياة اليومية، وأعاق الحركة الثقافية الإيطالية. تتممها في الليل مشاهد الحفلات الصاخبة، المؤطرة بالنهم الجنسي، والعجز عن التواصل الاجتماعي المبني على الحوار الخلاق. ويلوح في الخلفية كاتب ستيني (جيب قامبرديلا) يمثل نجم تلك الحفلات. ومخرج مسرحي (رومانو) يحاول عبثاً التماس طريقه لإيجاد شركاء يتبنون الكفاح خارج أسوار الهاجس الجنسي، لاجتراح شكل من أشكال البطولة الجنونية. وبالتالي يجسد دونكشوتية البحث عن منفذ يمنح الشعور بالكرامة وسط اللامبالاة والتجاهل العام. وهي فكرة تتخذ في حالة الفنانة التعبيرية (تاليا) شكلاً تمردياً حزيناً، مفرغاً من التعاطف الوجداني. فالاندفاع بالجسد العاري نحو صخرة لصدم الرأس وسط ذهول المشاهدين، إنما يعني الوصول إلى الجدار المسدود. وخاصة حين يعجز الكاتب المتسرع عن إجراء حوار معها يفسر طبيعة المشهد الذي أدته بجسدها العاري ورأسها المغطى بوشاح شفاف. ويكتفي بالاستهزاء بفكرة الاهتزازات الخارجة عن الحواس، التي أملت عليها احتجاجها على احتجاب الحياة الحقيقية خلف أستار الجنس الخلاعي.   

بالمقابل تمثل الروائية الخمسينية (ستافينا) التي تملك في رصيدها 11 رواية، قمة العهر والنفاق الثقافي الذي يخفي تحت قناع الغرور والتعالي، زيفاً إنسانياً وعجزاً عن الإتيان بقيمة أدبية خلاقة.. فهي تتبجح بالأكاذيب وتتجاهل أيامها المهنية المحلية التي ذهبت دون أن تلاحظ، بينما حافظت فضائحها الجنسية على لمعانها في الذاكرة الجمعية. وهي مقولة تتخلق في صورة (رامونا) راقصة التعري التي تصر على مزاولة مهنتها رغم بلوغها سن الأربعين!   

كل ما استطاع الكاتب فعله بعد إنجاز روايته اليتيمة قبل أربعين عاماً، هو تكريس الهوس بالمقابلات، والمحافظة على الشراكة الواهية بين جماعة المثقفين، ودعمها بالتسلية الرخيصة المتكئة على استنفار الحواس والغرائز إلى الحدود القصوى.. ويختزل الوضع بمشهد امرأة منقبة تجلس في مطعم مقابل رجل يرتدي الملابس العربية، يلتهم الطعام مع الكحول، وهي تراقب بحزن الحياة من حولها. والحجاب هنا يتكامل مع مفهوم العجز عن التواصل الحقيقي وتكريس الشعور المدقع بالوحدة الذي يلتمس التفريغ بالجنس! مما يعني أن وصول التفريغ إلى منتهاه يستدعي الخواء الكلي المفضي إلى الانتحار، كحالة الثرية أليسا التي أحبت الكاتب قبل أربعين عاماً، وحين التقته وعاشرته، اكتشفت أن الحب لا يعني بالضرورة توافقاً جنسياً. وهذه الخيبة غير المغتفرة بمقاييس العصر المادي أفضت بها نحو الانتحار! لذلك يقرع ناقوس الخطر بعنف مع استلاب براءة الطفلة المبدعة كارميلينا، ودفعها لرسم صورة جدارية أثناء استعراض علني، استجراراً للشهرة والثراء الفاحش.

 أوحى إصرار الراهبة القديسة على مواصلة ارتقاء الدرج رغم تقدمها في العمر، بالاحتمالات المفتوحة، أي نفي النهاية. فعلاقات الإنسان المعقدة ومنح حياة للأكاذيب والأوهام عبر الكتابة، هي محاولات لتجنب موت السقوط في التفاهة المحضة..

العدد 1104 - 24/4/2024