القبقاب الدمشقي.. رنة اندثرت من الأحياء الدمشقية

ظهرت منذ القدم على أرض عين الشرق دمشق حرفٌ ومهن كثيرة أحيت الإنسان وصنعت الحضارة في أقدم مدينة مازالت مأهولة، فلم تقف حضارة دمشق عند التاريخ بل امتدت إلى مهنٍ وصناعات تناقلها الأبناء عن الآباء عبر مئات السنين ومنهم وصلت إلى كلِّ شعوب الأرض، وما صناعة القبقاب إلا واحدة من صناعاتٍ كثيرة تميزت بها دمشق.

للقباقيب الدمشقية سوق خاص بها يحمل اسمها (سوق القباقبية) يساير الجدار الجنوبي للجامع الأموي ويمتد من الغرب إلى الشرق من سوق القوافين بجوار سوق الصاغة القديم حتى زقاق النوفرة المؤدي إلى حارة القيمرية، ومن هذا السوق العريق كانت تُحمل مصنوعاته الخشبية المختلفة، وخاصة القباقيب إلى مصر وبيروت وإستانبول، برغم وجود الحرفيين المهرة في تلك الدول، إلا أنَّهم ليسوا بحرفية ومهاراتهم الدمشقيين.

إن تاريخ هذه المهنة في الأسواق (الدمشقية) قديمٌ جداً، لكن الآن لا يوجد فيها سوى محلّ واحد وبسطة قريبة منه، وبضعة محال تبيعه أيضاً، فمعظم محلاته غيرت مهنتها الأساسية اليوم وقلَّ عدد مصنّعي القبقاب مع الأيام، نتيجة لوفاة الآباء وتوجّه الأبناء نحو مهن تتعلّق بالدراسة أو العصر الحديث، وإذا لم تتصدَّ الدولة لحماية هذه الحرفة فهي مهدّدة بالانقراض.

يستعمل عادةً في صناعة القبقاب خشب الجوز والمشمش والتوت والصفصاف والزان، أما في دمشق فيصنع من خشب الصفصاف أو الحور لكثرة هذه الأشجار في دمشق.

وللقباقيب الدمشقية أشكال ومسميات عديدة، ولم يحفظ من أسمائها القديمة إلاَّ البعض، منها الزحاف ويقال له الزحافي، وقد ذكره (المقريزي) عند المجادلة الكلامية بين قاضي القضاة زين الدين التفهي الحنفي مع الميموني، عندما حكم عليه بسفك دمه والميموني يقول له: (اتق الله يا عبد الرحمن، أنسيت قبقابك الزحَّاف وعُميَّمتكَ القطن).

وشكل آخر كان يسمى فيما يبدو (قبقاب سجك): قدمه لاصق بالأرض والمؤخرة كعب بطول ثلاثة قراريط، وقد أشار إليه ابن إياس في وفاة قاضي محيي الدين بن النقيب بمصر 922/1516م: (إنَّ سبب موته أنه كان يمشي في الأسواق بقبقاب سجك فتوجه إلى خان الخليلي فرفسه فرس فوقع على فخذه فأنكسر فحَملوه إلى خلوته التي في المدرسة المنصورية فأقام بها أياماً ثمَّ مات).

وفي دمشق ما يسمى (الشبراوي) والتسمية جاءت لارتفاعه شبراً، وهو قبقاب نسائي استخدمته المرأة الدمشقية، ويكون خشبه مصدفاً وسيره مطرزاً بخطوط الفضة، وهناك القبقاب (الجركسي) أو ما يسمى (المهاجرين) وجاءت تسميته لقيام بعض الحرفيين من المهاجرين والجراكسة، الذين قِدموا دمشق بصناعَتِهْ على طريقة أهل بلادهم الأصليين، وهو أقل الأشكال ارتفاعاً وألصقها بالأرض وأبخسها ثمناً، وهناك (العكاوي) وهو دون (الشبراوي) علواً، ولا يُدرى سبب التسمية، هل لأن أهل عكا يلبسونه خاصةً، أم كان يُصنع قبل ذلك في مدينتهم عكا؟

وهناك قبقاب (الكندرة) ويشبه قبقاب الجراكسة إلا أنَّ له مقدمة ومؤخرة أرجل بطول (أربعة قراريط) لاصقة بالقبقاب لأنها تنزل في تجويفين من مقدم سطح القبقاب ومؤخره وهي تصنع خاصةً لحمامات دمشق فقط، ويلبسها صَّناع الحمام والزبائن في البَرَّاني، وقد يلبسه أيضاً كثير من الفقراء والموسرين اتقاءً لأوحال الشتاء، كما ورد ذكر قبقاب (نصف كرسي) من ضمن الأشكال المعروفة، ولكن لا يوجد مصدر واحد للتعريف به.

اليوم اندثرت القباقيب من أقدامنا، كما انمحت ذاكرة هذا السوق التاريخي الجميل من أذهان أبناء دمشق: فلقد كان سوق القباقبية ولا يزال قسم صغير منه تباع فيه القباقيب، ومع أن مهنة صناعة القباقيب في طريقها للزوال، إلا أنَّ هذا السوق الشعبي التراثي، وما تبقى من الأسواق القديمة الأخرى، يشدنا إلى أريج الماضي، وسحر التاريخ، واليوم ونحن نجتازه من سوق الصاغة القديم إلى مقهى النوفرة التراثي الجميل، ننظر بحزن، وأسى إلى ما آل إليه حال هذا السوق العريق، من غياب عرض القبقاب في محلاته ودكاكينه، بل غدت هذه المحلات تتمة لسوق الصاغة، ولبيع اللوازم المنزلية.

مالنا في خاتمة الكلام إلاَّ أن نقول: رحم الله أيام القبقاب، ورحم الله صانعيه القدماء، الذين أفنوا العمر في جنبات هذا السوق العريق.. وسقى الله أيام زمان!

العدد 1105 - 01/5/2024