بعد الحريق الكبير.. سورية ستنهض من جديد

عامان انقضيا على حركة احتجاجية انطلقت بدايتها عفوية في درعا، لتتحول فيما بعد إلى حرب شبه عالمية، انغمست فيها نصف البشرية بشكل أو بآخر، وتخطت كل الحدود المعقولة ليصبح منطقياً جداً التساؤل عن الرابط بين السبب والنتيجة، وبين البداية والنهاية، ومدى التناسب بينهما، وعن علاقة المعالجة الخاطئة للأزمة وهي في بدايتها، في الوصول إلى ما وصلنا إليه. كما أصبح التساؤل مشروعاً عن الرابط المنطقي بين ما أسمي (ثورة) وبين حادث درعا الشهير، وهل ينفع في غمرة هذه التساؤلات الحديث عن الفعل ورد الفعل في تفسير ما جرى ويجري؟ وهل يمكن أيضاً استحضار الذاكرة التاريخية لمقارنة حادث مقتل أمير سيراييفو في البلقان الذي أشعل نار الحرب العالمية الأولى بكل فظاعتها؟

كل هذه التساؤلات تشكل مدخلاً لفهم ما حدث، وما نحن بحاله الآن، وكيفية الخروج منه.

قد نجد في الاستعراض السريع للنتائج المأسوية التي وصلنا إليها، الكثير من الإجابات المباشرة وغير المباشرة، على جملة التساؤلات المطروحة آنفاً:

عشرات الألوف من القتلى والجرحى- هدم أحياء وأماكن سكنية بكاملها- تهجير ما يفوق مليونين من البشر من بيوتهم وقراهم ومدنهم- تحطم وتعطل بنى تحتية استغرق بناؤها عشرات السنين، ومنها محطات توليد الكهرباء ومحولاتها وخطوط نقلها- تدمير جسور بيتونية من العيار الثقيل – الاستيلاء على آبار النفط والعبث بها وتسرب النفط إلى الأراضي الزراعية المحيطة بها، مما يتطلب أجيالاً من أجل القضاء على آثارها السميّة على البيئة- تفكيك الآلات التابعة لأكثر من 1000 معمل وتعطيلها وسرقتها ونقلها إلى تركيا وبيعها خردة – تدمير بعض معامل الأدوية خاصة أدوية الأطفال- قطع الطرقات الواصلة بين المحافظات – تدهور العملة الوطنية – توقف المشاريع الاستثمارية- تعطل 200 ألف عامل عن العمل – المخطوفون – المعتقلون – تدمير الآثار والتراث الثقافي والتاريخي.. إلخ.

وعلى الجبهة السياسية:

– تدويل القضية السورية، وانقضاض الوحوش الاستعمارية العظمى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتوابعها مثل تركيا والسعودية وقطر على سورية، والإمعان في تدخلاتهم المباشرة وغير المباشرة.

– تدفق قطعان المرتزقة الأجانب على سورية عبر الحدود التركية، ولاحقاً عبر معسكرات تدريبهم من الأردن ولبنان، وهؤلاء هم مجموعات تكفيرية جاهلية ذات عقول وقلوب مجردة مما هو إنساني، لا يفهمون الحوار ولا يقرّون به، باعتباره يتناقض جذرياً مع أيديولوجيا الدولة الاستبدادية الدينية غير القابلة لأي نقاش.

– زعزعة الاستقرار والتوازنات في المنطقة، وهو مرشح للتفاقم.

– ارتياح إسرائيلي من ابتعاد الجيش العربي السوري عن مواقعه الأساسية على الجبهة، مع بداية تدخل في الأزمة، قد تدخل معطيات جديدة إلى الصراع العربي الإسرائيلي.

– امتلاء البحر الأبيض المتوسط بالقطع البحرية الضخمة التابعة للدول العظمى.

– بداية تشكل استقطابات عالمية جديدة لا تكون الولايات المتحدة فيها القطب الأوحد.

وعلى الجبهة الاجتماعية الداخلية:

– استيقاظ النزعات الطائفية والمذهبية إلى درجة تبعث على القلق الشديد.

– الانقسام المجتمعي الذي بدأ يخترق مكونات هذا الوطن وفسيفسائه، وزرع بذور الحقد بين الكثير من أبنائه.

– ازدياد البطالة والتشرد والتسوّل والجرائم والخطف والسرقة.

إن هذا الاستعراض الموجز لتداعيات هذه الأزمة التي تتحول إلى كارثة وطنية، يدل على أن أسبابها أبعد بكثير من أن تعزى إلى سبب واحد، خاصة إذا حصر في حادث درعا، أو حتى في مجموعة مطالب وتعارضات وأخطاء في السياسات الحكومية المتعاقبة التي لا يمكن إعفاؤها من المسؤولية السياسية المتمثلة بالترويج لنهج اقتصادي بعيد عن مصالح الجماهير الكادحة والاقتصاد الوطني.

إن القضية الأساسية، كما ذكرنا في مناسبات عدة، هي مركبة، ولكن العنصر الحاسم والطاغي فيها، أصبح الآن المعركة حول تدمير الدولة السورية بكل مرتكزاتها وبناها التحتية ومقومات وجودها، والعناصر المكونة لموقفها السياسي الوطني المقاوم الذي يراد إزاحته من المشهد السياسي الشرق أوسطي، أو إضعافه وإنهاكه إلى أقصى درجة ممكنة.. وهذه الاستراتيجية هي أمريكية بالأصل، وتستهدف تقويض مراكز الثقل العربي الواحدة بعد الأخرى، ضماناً لأمن إسرائيل بالدرجة الأولى.. وهذا ما يوسع دائرة المعركة ويبقي الحريق مشتعلاً.

إن مصلحة السوريين جميعاً تكمن في إطفاء هذا الحريق، ومن هنا برزت فكرة الحل السياسي عبر الحوار التي تعبر عن الاعتراف بالآخر، الوطني والسلمي، والتشارك معه في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على قاعدة أن أخطاء الماضي لن تتكرر، ويجب وضع قواعد دستورية وقانونية جديدة تكرس الواقع الجديد المنشود.

إن السوريين جميعاً مدعوون للاستفادة من دروس العامين اللذين اشتعلت فيهما سورية، واستعادة عافيتها وقوتها، والابتعاد عن روح الثأر والانتقام، والسير بخطا جادة نحو الدولة الوطنية الديمقراطية المدنية، ونحو التغيير السلمي.

العدد 1105 - 01/5/2024