المسألة الأوكرانية… والصراع على شبه جزيرة القرم

احتفالاً بالذكرى الـ300 لاندماج أوكرانيا في الإمبراطورية الروسية، أصدر مجلس السوفييت الأعلى مرسوماً يقضي بنقل ملكية محافظة القرم من الجمهورية الروسية إلى جمهورية أوكرانيا، آخذاً في الحسبان الطابع التكاملي للاقتصاد، والمجاورة الجغرافية، والروابط الاقتصادية الوثيقة بين محافظة القرم وجمهورية أوكرانيا، ومصادقاً على اقتراح رئاسة مجلس السوفييت الروسي ورئاسة مجلس السوفييت الأوكراني بشأن نقل محافظة القرم من الجمهورية الروسية إلى الجمهورية الأوكرانية.

هذا القرار الذي اتخذته قيادة الاتحاد السوفييتي عام 1954 لم يكن أحد يتوقع أنه ستكون له نتائج كارثية على روسيا بعد أكثر من نصف قرن.

وفي 19 شباط 2009 نشرت صحيفة (البرافدا) تقريراً موثقاً، وصفت فيه مسألة القرم على النحو التالي: (أبلغ خروتشوف رفاقه بقرار نقل القرم إلى أوكرانيا، وذلك بصورة عرضية أثناء توجههم لتناول الغداء، قائلاً: (نعم أيها الرفاق، هناك رأي بشأن إعطاء القرم إلى أوكرانيا). ولم يجرؤ أحد على التعبير عن أي معارضة).

وتابعت (برافدا) تقول: (جدول أعمال جلسة مجلس السوفييت الأعلى، التي عقدت يوم 15 كانون الثاني ،1954 تضمنت مسألة تتعلق بنقل ملكية القرم إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية. ومناقشة تلك المسألة استغرقت 15 دقيقة فقط. وقد وافق المشاركون على المرسوم، وبذلك أعطيت المنطقة مجاناً إلى أوكرانيا).

هذه الهدية التي لم يكن لها أي معنى جوهري في ذلك الوقت ارتدت اليوم أهمية جيو- سياسية كبرى في لعبة الأمم الدائرة حالياً على مسرح السياسة الدولية.

وفي يوم الثلاثاء الموافق 18 آذار 2014 انضمّ إقليم شبه جزيرة القرم مجدداً إلى روسيا، إثر توقيع اتفاق في موسكو في اليوم السابق، بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس برلمان القرم فلاديمير قسطنطينوف ورئيس وزراء القرم سيرغي أكسيونوف، وعمدة مدينة سيفاستوبول أليكسي تشالي.

وقال الكرملين: (تعتبر جمهورية القرم ملحقة بالاتحاد الروسي، بدءاً من تاريخ توقيع الاتفاق)، علماً أن البرلمانيين الروس يجب أن يوافقوا، على قانون ضم شبه جزيرة القرم التي صوّت سكانها على الانفصال عن أوكرانيا الأحد الماضي.

وخاطب بوتين أعضاء البرلمان وحكام المناطق وأعضاء الحكومة قائلاً: (في قلوب الناس وعقولهم، كانت القرم وتبقى جزءاً لا يتجزأ من روسيا)، واصفاً قرار الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف تسليم شبه جزيرة القرم لأوكرانيا عام 1954 بأنه (غير شرعي).

وكان لنتيجة ضمّ القرم إلى روسيا دلالات عدة، وقد يؤدي لتداعيات محتملة على الصعيدين الدولي والإقليمي. لعل أولها، يتعلق بمكانة روسيا الدولية وقدرتها على حماية حلفائها ومصالحها ومواطنيها فيما وراء الحدود الروسية. فقد كان الاستفتاء معركة سياسية ودبلوماسية لا تقل ضراوة عن حرب القرم التي نشبت منتصف القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة هي أول مَن صك مفهوم (حق تقرير المصير) على لسان رئيسها ودرو ويلسون، في خطابه أمام الكونغرس في 8 كانون الثاني 1918 ضمن نقاطه الأربع عشرة التي عكست رؤيته لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإنها أنكرت هذا الحق على شعب شبه جزيرة القرم. واعتبرت واشنطن أن الاستفتاء غير شرعي، وأنه يمثل انتهاكاً لدستور أوكرانيا، وأكدت أنها لن تعترف أبداً بنتائجه. كما اعتبر الغرب أن روسيا مسؤولة عن التصعيد حول جمهورية القرم، وأن موقف روسيا يتعارض مع اتفاقية بودابست الموقعة عام 1994 بين روسيا وكل من أوكرانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، التي تضمن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها مقابل تخليها عن الأسلحة النووية، وهي الاتفاقية التي لم يصدق عليها البرلمان الروسي، رغم وفاء أوكرانيا بالتزاماتها وإخلاء أراضيها من القدرات النووية العسكرية التي ورثتها من الاتحاد السوفييتي.

وقامت واشنطن يدعمها الاتحاد الأوربي ببذل قصارى جهدهم للحيلولة دون عقد الاستفتاء.. وتضمن ذلك تصعيد التهديد بفرض عقوبات على روسيا وعزلها، وقيام كاترين آشتون بزيارات متكررة لكييف، في دعم سياسي ودبلوماسي واضح للحكومة الجديدة. وكذلك زيارة جون كيري لأوكرانيا، ثم استقبال أوباما رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني ياتسينيوك في واشنطن، وتأكيده استعداد الولايات المتحدة تقديم الدعم اللازم لتأمين سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها. وترافق ذلك مع تقديم مشروع قرار أمريكي لمجلس الأمن يقضي بعدم اعتبار الاستفتاء في القرم قانونياً وأساساً لأي تغيير في صفة شبه الجزيرة، بسبب عدم التنسيق مع السلطات في كييف، ويدعو جميع الأطراف والمنظمات الدولية إلى عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء. ورغم موافقة الدول الغربية على القرار، فإن استخدام روسيا حق النقض (الفيتو) أدى إلى إجهاضه وفشل المحاولة الأمريكية.

ومن جهته، فقد أكد الرئيس بوتين أن إجراء الاستفتاء في القرم يتفق تماماً مع مبادئ القانون الدولي، بما فيه البند الأول من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على حق الشعوب في المساواة وتقرير المصير، وأن روسيا ستحترم خيار شعب القرم. يعزز ذلك أن شبه الجزيرة كانت جزءاً من روسيا، وضُمت إلى أوكرانيا عام 1954 خلال الحقبة السوفييتية بطريقة تعارض قوانين الاتحاد السوفييتي، ودون مراعاة لرأي شعبها. كما أكّد أن الاستفتاء تم تحت إشراف مراقبين دوليين وصل عددهم إلى نحو 70 مراقباً، من بينهم 45 مراقباً من دول الاتحاد الأوربي، لا يمكن لأحد التشكيك في نزاهته وصدق نتائجه في كونه معبّراً عن إرادة شعب القرم. ويدعم هذا التأييد الشعبي والسياسي داخل روسيا لعودة القرم إلى وطنه الأم، فقد خرج الآلاف في موسكو لدعم القرم والمطالبة ببدء عملية انضمامها إلى روسيا فوراً، ووافق البرلمان الروسي بمجلسيه (الدوما) و(الاتحاد) على انضمام القرم إلى روسيا، وأبديا دعمهما (للخيار الحر والديمقراطي لشعب القرم)، مؤكدين أن منع القرم من الحق في تقرير مصيره يعتبر انتهاكاً للقوانين الدولية، بما فيها قرار المحكمة الدولية التابعة للأمم المتحدة بشأن كوسوفو، ويعكس ازدواجية في المعايير الدولية، فقد قضت المحكمة الدولية في تموز 2010 أن إعلان إقليم كوسوفو استقلاله عن صريبا بشكل أحادي لا يتعارض مع القانون الدولي.

أما الدلالة الثانية، فإن خروج روسيا منتصرة في المواجهة بشأن القرم قد يؤدي إلى تعزيز أجواء الحرب الباردة التي تلبدت غيومها في سماء أوربا مع تزايد حدة المواجهة بين روسيا من جانب والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي من جانب آخر.

فقد أمعن الجانبان الأمريكي والأوربي في إطلاق التهديدات بمعاقبة موسكو وعزلها، واتخذوا عدداً من الإجراءات التصعيدية، إذ أعلن البنتاغون عن تجميد التعاون العسكري مع روسيا، وتم تجميد التحضير لقمة (الثماني الكبار) المقرر عقدها في سوتشي في حزيران المقبل، وكذلك اجتماعات روسيا – الناتو. وأعلن الاتحاد الأوربي فرض عقوبات على 21 شخصية روسية، وتعليق المحادثات مع روسيا بشأن تسهيل منح تأشيرات دخول الروس إلى دول الاتحاد الأوربي. كما أعلنت الولايات المتحدة أنها على استعداد لتجميد حسابات مسؤولين وأفراد روس ومنعهم من دخول أراضيها لاتهامهم بالمشاركة في تصعيد الصراع في أوكرانيا.

بالفعل، بدأ وزراء خارجية الاتحاد الأوربي في اليوم التالي للاستفتاء اجتماعهم في بروكسل لبحث فرض مزيد من العقوبات على روسيا بعد دعمها استفتاء القرم. هذا في الوقت الذي اعتبرت روسيا مثل هذه الإجراءات والتهديدات استفزازية وضارة للجانبين، وأكدت أنها سترد بالمثل على أي عقوبات غربية.

لقد حقّقت السياسة الروسية انتصاراً مهماً في الصراع الدائر مع قوى الاستعمار العالمي الجديد حول أوكرانيا. فقد تعاملت موسكو مع أوراق القوة التي تمتلكها ببراعة فائقة، بعدما أن أيقنت طبيعة الصراع الأساسي الذي يهدف إلى عزل شبه جزيرة القرم عن روسيا، وبالتالي عزلها عن البحر الأسود، الأمر الذي يؤدي إلى قطع اتصالها بالبحر الأبيض المتوسط، وذلك بعدما وضعت تلك القوى نُصب عينها النظرية الاستعمارية القديمة التي تقول بضرورة عزل روسيا ومنعها من الوصول إلى المياه الدافئة، لكن الكرملين أدرك منذ اللحظة الأولى أن القرم هو الهدف الرئيس لهذه المعركة، فقام بتأمين شبه الجزيرة في معركة سياسية ضخمة انتهت بإجراء استفتاء شعبي، عبّرت فيه أغلبية شعوب القرم عن رغبتها بالاستقلال عن أوكرانيا، والانضمام إلى الاتحاد الروسي.

في العالم الحديث المعقّد والمليء بالتناقضات، لا يمكن احتلال مكانة رفيعة ولعب الدور الضروري الهام في هذا العالم، ولا يمكن التمتّع بهيبة ونفوذ، ولا يمكن تنفيذ سياسة خارجية مستقلة تليق بدولة عظيمة وشعب عظيم، دون الاعتماد بصورة رئيسية على القوى الخاصة والاحتياطات الوطنية الخاصة المادية والروحية على حد سواء. هذا الأمر الذي وضعه فلاديمير بوتين نُصب عينيه، وهو يراقب تطورات الأزمة الأوكرانية قبل أن يُقرر التحرك لإعادة شبه جزيرة القرم إلى حضن روسيا الأم متسّلحاً بالقانون الدولي وبحق الشعوب في تقرير مصيرها، هذا القانون الذي تستخدمه واشنطن عندما يتوافق ومصالحها السياسية وتعارضه عندما يتعارض مع أهدافها الاستراتيجية.

العدد 1105 - 01/5/2024