هل وصلت شهور كيري التفاوضية التسعة إلى طريق مسدود؟!

يقترب يوم 29 نيسان، وهو الموعد الذي حدده وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، بأن الشهور التسعة التي بدأت في تموز 2013 بعد انقطاع رسمي للمفاوضات الثنائية الفلسطينية – الإسرائيلية، كافية للوصول إلى حلول لقضايا الوضع النهائي على المسار التفاوضي الفلسطيني – الإسرائيلي، وتعهد آنذاك بأن هذه الفترة التفاوضية التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية وحدها (مستثنية الهيئات الدولية الأخرى وبضمنها اللجنة الرباعية) ستتضمن إفراج إسرائيل، على أربع دفعات، عن الأسرى الفلسطينيين المعتقلين ما قبل اتفاق أوسلو (13/9/1993)، وتجميد البناء في المستوطنات، وعدم إقامة مستوطنات جديدة.

ورغم الوعود والتعهدات (الكيرية) التي أدت إلى موافقة الطرف الفلسطيني المفاوض على العودة إلى طاولة المفاوضات، وتالياً تأجيل تقديم طلب الانضمام الفلسطينية إلى المؤسسات الدولية الأخرى، خلال هذه الفترة، وما أثاره من تباينات في الجانب الفلسطيني، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني الأخرى، فإن إسرائيل، كعادتها، واستمراراً لكيفية تعاملها التفاوضي التقليدي الصهيوني، لم تلتزم بإطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى، ولم توقف نشاط غول الاستيطان خلال فترة الشهور التسعة المحددة.

وبات واضحاً، وخاصة في الجولة الأخيرة بين صائب عريقات رئيس فريق المفاوضين الفلسطينيين، وتسيبي ليفيني وزيرة العمل، ومسؤولة ملف المفاوضات، وبرعاية أمريكية تمثلت في مارتن أنديك ممثلاً للوزير كيري، أنها جولة (تفاوض على التفاوض)، وأن الهدف الأمريكي يتلخص في أنهم لا يريدون أن يتحملوا فشل هذه المفاوضات. هذا في الوقت الذي تبادل فيه الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي الاتهامات والنعوت المختلفة حول التصرفات الأحادية الجانب من جهة، والإشارة إلى أن (الوساطة) والرعاية الأمريكية قد استنفدت من جهة ثانية (ذهب كيري وفق تقديرات الإدارة الأمريكية إلى أقصى ما يستطيع من دون أن يتخذ الطرفان قرارات مهمة، في إشارة إلى جولاته المكوكية المكثفة، مقارنة بخمس جولات فقط لهيلاري كلينتون خلال توليها منصبها وزيرة للخارجية.

وشهدت الأيام القليلة الماضية تهديدات متعدد الجوانب تمثلت في العديد من المسائل الهامة، ومنها:

– أمريكياً، وتلخص في إيفاد الخارجية الأمريكية مارتن أنديك لرعاية جولات المفاوضات الأخيرة بدلاً من كيري، والتلويح بنفض يدها من (العملية التفاوضية) أو السلمية في حال فشل الجولة الأخيرة.

– فلسطينياً، وتجلى في توقيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على 15 طلباً رسمياً لانضمام دولة فلسطين (دولة غير عضو في الأمم المتحدة منذ 29 تشرين الثاني عام 2014) إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية (محكمة العدل الدولية، مجلس حقوق الإنسان، اتفاقيات جنيف الأربع.. إلخ).. استثنى عباس طلباً حول محكمة الجزاء الدولية، في محاولة لعدم قطع شعرة معاوية مع واشنطن، هذه الطلبات بوصفها خطوات تتوافق مع الإجراءات الدولية المتبعة، في رد فلسطيني على الانتهاكات الإسرائيلية الاستيطانية، والإصرار على الاعتراف بيهودية الدولة، وبالتالي عدم إحراز أي تقدم خلال أكثر من ثمانية شهور.. وقدمت هذه الطلبات في 2 نيسان الجاري إلى الهيئات الدولية المعنية، وأعلن على أثرها ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، أنها تقبل طلبات انضمام الفلسطينيين إلى 13 اتفاقية ومعاهدة دولية حتى تاريخه. تجدر الإشارة إلى تقديم عريقات أكثر من مرة استقالته إلى الرئيس عباس احتجاجاً على آلية التفاوض الإسرائيلي.

– إسرائيلياً، ويتلخص في قرار نتنياهو وقف التعامل بين الوزارات المعنية الإسرائيلية مع مثيلاتها الفلسطينية، وتجميد تسليم عائدات الضرائب المستحقة للفلسطينيين من قبل إسرائيل، رداً على هذه التحركات الفلسطينية الأخيرة، وهذا ما وصفه صائب عريقات بأنه قرصنة إسرائيلية وسرقة لأموال الشعب الفلسطيني (هذه ليست المرة الأولى)، وانتهاكاً للقانون الدولي، وصولاً إلى التلويح بأن عباس سيدفع الثمن.

– استفاقة وزراء الخارجية العرب في الاجتماع الطارئ الأخير لهم في القاهرة، الذي عقد على ضوء تعثّر المفاوضات، ووصولها إلى طريق مسدود، وإعلانهم عن مساندتهم للتحركات الفلسطينية. لم تلحظ هذه الاستفاقة تحويل جزء من المليارات المخصصة لـ(ثورات الربيع العربي) إلى الفلسطينيين لتعزيز صمودهم ومواقفهم ميدانياً!

ورغم إعلان المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني (إن قرار الإسرائيليين تأخير الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى سيخلق صعوبات)، وانتقادات كيري للطرفين (تمارس الضغوط عملياً على الجانب الفلسطيني)، فإن شهادته أمام مجلس الشيوخ الأمريكي حول مسؤولية إسرائيل عن تفجير المفاوضات، تضاف إلى تلميحاته السابقة بأن (الطريق مسدود)، سيفجر انتفاضة فلسطينية ثالثة.

وتتباين هذه المواقف الأمريكية، على أهميتها وبراغماتيتها، في الوقت نفسه، مع ما أعلنته السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة أماندا باور (2 نيسان) أن (الولايات المتحدة ستقف إلى جانب إسرائيل وستدافع عنها، وتطعن بكل حالة من حالات المعاملة المجحفة في نظام الأمم المتحدة بأسره)! وهذا ما يعكس واقع الإدارة الأمريكية ومواقف مراكز القرار فيها، وكيفية تعاطيها مع الإشكاليات العديدة التي يعانيها عالمنا.

ورغم التجارب التفاوضية السلبية السابقة مع إسرائيل، وتنصّلها العملي من الاتفاقيات الثنائية، وبضمنها اتفاق أوسلو (على علاته ونواقصه)، فإن تجربة هذه الشهور التسعة باتت تتطلب موقفاً فلسطينياً مختلفاً، يتعاطى مع هذه السياسة الإسرائيلية وخرقها لهذه الاتفاقيات وللقوانين والمعاهدات الدولية أيضاً.

وتزداد الأمور حدة، لأن هذه الشهور التسعة (الكيري) كان يفترض بها أن تضع حلولاً لقضايا الوضع النهائي (الأمن، المياه، الحدود، القدس، اللاجئين، المستوطنات).

وإذا كان واضحاً للجانب الفلسطيني أن إسرائيل التي تنصلت من اتفاقيات (مرحلية) وأوصلت المفاوضات إلى طريق مسدود في كامب ديفيد 2 عام 2000 فإن بعض القيادة الفلسطينية في رام الله، أراد إعطاء الإدارة الأمريكية فرصة أخرى، وإظهار حقيقة المواقف الإسرائيلية العملية للعالم، وهذا ما يفسر إصرار عريقات في جولته الأخيرة مع ليفني، بوجود أنديك.. على المطالب الفلسطينية السبعة، التي لم يعلن عنها رسمياً (من الأطراف الثلاثة)، وجوهرها: (اعتراف نتنياهو المكتوب بالدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس – الإفراج عن 120 معتقلاً تم الاتفاق حولهم مع حكومة أولمرت، وبضمنهم أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية، ومروان البرغوثي القيادي في حركة فتح – تنفيذ اتفاق المعابر وفك الحصار عن قطاع غزة – إعادة مبعدي كنيسة المهد ووقف الاستيطان وخاصة في القدس – وإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية فيها، إعادة جمع شمل 15 ألف فلسطيني في الضفة وغزة – وقف تسلل إسرائيل إلى مناطق السلطة الفلسطينية – وقف الاغتيالات والاعتقالات- منح السلطة الفلسطينية السيطرة على المنطقة ج حسب اتفاق أوسلو).

وهذا ما يوضح أيضاً محاولات أنديك وقبله كيري تمديد المفاوضات عاماً آخر، خلافاً لوعود كيري السابقة حول الشهور التسعة، ويظهر أيضاً الإمكانات الموجودة لدى الفلسطينيين، بالاستفادة من حقوقهم المكتسبة دولياً، وخاصة منذ الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، كذلك انعكاسات عضوية دولة فلسطين في المؤسسات الدولة الأخرى أيضاً، وبخاصة محكمتي الجزاء والعدل الدوليتين، التي ستضع القيادات الإسرائيلية أمام استحقاقات قانونية دولية عملية، وتحرج سبعة وتسعين بلداً تستثمر في المستوطنات، ولا تريد التعرض لمشكلات مع القانون الدولي.

أسابيع قليلة قادمة تؤشر إلى الكثير من التطورات والمتغيرات في آلية التعاطي الفلسطيني، على اختلاف توجهاته وآرائه، على السياسة الإسرائيلية – الصهيونية، رغم الوضع العربي السلبي الراهن وتأثيراته.. ومحاولات الإدارة الأمريكية الحثيثة الاستفادة من هذا الوضع، واستمرار إشغال سورية بأوضاعها الداخلية، بهدف الوصول إلى (حل) سريع على ضوء هذه التطورات أيضاً، في سياق مصالح وترتيبات أمريكية بحتة حول المنطقة عموماً.

العدد 1105 - 01/5/2024