كي لا ننسى: عبد الجليل جرجنازي (1935-2012) «1/ 2»

البدايات

أود التأكيد في مطلع صياغتي هذه المذكرات الموجزة لعامل شيوعي وناشط نقابي أن من شكّل رؤيتي وقناعاتي وفهمي لما يدور حولي من تناقضات اجتماعية ونمّى وعيي الطبقي وعزّز شعوري الوطني بالانتماء إلى سورية، بلدي الغالي هو: انضمامي لصفوف الحزب الشيوعي السوري، منذ نعومة أظفاري.

وإنني أقدر كثيراً لرفاقي انتخابي، أكثر من مرة، عضواً في اللجنة المركزية للحزب.

وُلدت في مدينة الباب (محافظة حلب)، نلت في إحدى مدارسها شهادة الدراسة الابتدائية، فُصلت من المدرسة الإعدادية، وأنا في الصف السابع، بسبب نشاطي السياسي، أيام حكم أديب الشيشكلي، وكنت قد انتسبت للحزب عام 1949. كان خالي ووالد زوجتي الشاعر مصطفى البدوي هو من أشعل شمعة الوعي السياسي، في بيتنا، ولعب أخي الأكبر عبد الكريم دوره في التأثير علينا.

تنقلت في عملي بين الزراعة ومقالع الحجر، مهنة والدي وأعمامي، وإليها قد يعود سبب القسوة التي ظهرت في سلوكي، أحياناً. إني أعتذر عنها، ولو متأخراً، من جميع الذين تعاملت معهم، وأقدّر أنهم عرفوا ما في أعماقي، خلف تلك الخشونة، فلمسوا حبي لهم، خصوصاً: زوجتي أم عمر وأبنائي ورفاقي. لقد حزنت لعدم نجاحي، أغلب الأحيان، في التعبير لهم عن ذلك الحب ببساطة ودون ارتباك.

كما عملت مساعدَ بنّاء، ثم استقرّ عملي في مهنة الميكانيك. في البدء عملت في إصلاح مضخات الماء التي تسقي المزروعات، وقد ساعدتني هذه المهنة على الاتصال مع الفلاحين وشرح أفكار الحزب لهم.

أديّت خدمة العلم عام 1955 وبعدها عملت في مؤسسة الإنماء الاقتصادي(فرع سد الفرات). وفي أواخر عام 1959 هربت إلى لبنان، فترة الوحدة السورية المصرية. ثم عدت إلى الوطن، خلال الانفصال، وانتقلت إلى الطبقة للعمل في بناء سد الفرات عام 1969 حيث كان العمل قد انطلق بمساهمة الخبراء السوفييت.

بقيت في الطبقة حتى مطلع الثمانينيات، فانتقلت إلى شركة استصلاح الأراضي(محطة ضخ البابيري) وحقول مسكنة غرب، وبقيت فيها حتى إحالتي إلى التقاعد عام 1998.

***

كان بيتنا في الباب بيتاً للحزب، يؤمّه الرفاق في الباب وكذلك الرفاق من منظمة حلب، وأذكر أن الرفيق رضوان مارتيني، زار منظمة الباب، في فترة الخمسينيات، ونام في بيتنا أكثر من مرّة. كما أذكر أول نشاطٍ حزبي قمت به، وهو: توزيع بيان للحزب ضد ديكتاتورية حسني الزعيم، وتعرضّت لـ(كم رفسة وكم كف)، ثم تركوني لصغر سني.

بعد فصلي من المدرسة توجّهت للعمل في مهنة قلع الحجر، في قرية عبلا وقرية تل جيجان، ذلك أن أرضنا الزراعية كانت صغيرةً لا تسدّ رمق العيش.

رغم صغر سني وفهمي المتواضع لأفكار الحزب، فقد اقترحت على رفاقي في الباب وحلب تشكيل ثلاث لجان نقابية: الأولى لعمال مقالع الحجر، والثانية لعمال العتالة، والثالثة لعمال الدولة والبلديات، وقد تمّ تشكيلها. وعلى سبيل المثال: استأجر عمال العتالة دكاناً، كانت مركزاً لهم، واتخذوا بعض الإجراءات لتنظيم المهنة.

ضجّت مدينة الباب حينذاك، وصاح بعض التجار: (يا لطيف، لقد استلم الشيوعيون الحكم!) لأن أغلب أعضاء اللجنة كان من رفاقنا.

زار مقلع الحجر في قريتي عبلا وتل جيجان رفيقان من منظمة حلب (مسؤول المنظمة: راغب كوراني، وأنطوان جبرا، وكان اسمه الحركي، يومها: أبو أحمد)، كان ذلك عام 1954.

تقدمت في شهر أيلول عام 1959 للفحص الذي أعلنت عنه مؤسسة الإنماء الاقتصادي ونجحت وتمّ تعييني عاملاً بأجرٍ يومي مقداره 6 ليرات سورية.

عام 1963 اختارني عمال مؤسسة الإنماء لتمثيلهم في نقابة المحركات الانفجارية، وفي أقل من شهر أصبحت عضواً في مكتب النقابة الذي ترأسه طارق شاكر، وكنت نائباً له ومعي أربعة رفاق شيوعيين، في المكتب. وفي أواخر عام 1963 أصبحت رئيساً لمكتب النقابة.

أما مقر النقابة فكان في باب النصر، قريباً من مركز نقابة عمال الطباعة التي ترأسها الرفيق عمر قشاش. أعانني الرفيق عمر والرفيق بدر الدين شنن في التعرف على القوانين الناظمة للعمل النقابي وللعمل عموماً، فقد كنت أجهلها.

كنّا نداوم في مركز النقابة حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل، إذ يحضر العمال حاملين شكاويهم ومطالبهم، التي نتابعها في اليوم التالي مع أرباب العمل. وقد تبين لنا أن الأخيرين لا ينفّذون الكثير من بنود قانون العمل (ساعات العمل، الطبابة، التسجيل في التأمينات الاجتماعية، الحدّ الأدنى للأجور..)، بل كان منهم من (يرفع فلقة) لبعض عماله، وهو ما ذكره لي عضو مكتب النقابة أحمد مصري، فاندفعت إلى جمع بعض الفتوة والذهاب للانتقام من رب العمل، بيد أن بعض إخواني العمال تدخّل لمنعي من الإقدام على ذلك، ونجحوا بعد أن حصلت على وعدٍ من ربِّ العمل بعدم تكرار ذلك وتحسين معاملته للعمال.

وقد نظمنا اتفاقاً مع أرباب العمل يقضي بإغلاق المحلات العاملة في المحركات الانفجارية بعد عمل ثماني ساعات، أما إذا رغب صاحب العمل في فتح محله لوقت أطول، فعليه استخدام عمال آخرين(وردية ثانية).

طبّقت النقابة الاتفاق بمساعدة الدولة ولاقى ارتياح العمال والأهالي. وفيما بعد، تدخلت مديرية العمل والشؤون الاجتماعية (التي ترأسها، في ذلك الحين، السيد محمد قدور) وكذلك محافظ حلب ولكننا أصررنا على تطبيق الاتفاق.

ساعدت نشاطات رفاقنا في تعريف العمال بمواقف الحزب وزادت رصيده لدى أبناء حلب، وفي عام 1963 قامت تحركات سياسية جرى خلالها الهجوم على المخافر، مما دفع الحزب لاستنفار أعضائه، وكان يوجد في مكتب النقابة ما لا يقل عن عشرين عاملاً، كل ليلة، وقد طلب رفاقنا البعثيون، في بعض الحالات، العون من الحزب عبر القيام بدوريات، وقد استجاب رفاقنا لطلبهم.

العدد 1105 - 01/5/2024