ويبقى الجلاء..عيد الأعياد وسيّدها

منذ أربعين عاماً ونيف كتب محمود درويش، فيما كتب، في (يوميات الحزن العادي) قائلاً:

(… والليلة عيد ميلادك  الثالث عشر من آذار  وأنت تريد مناسبة لانتزاع المرح الكاذب من جهامة الأيام الصارمة.. تدعو أصدقاءك.. تتآمرون على الكآبة بالكأس والموسيقا والنكات الجارحة  

يرتفع صوت الموسيقا وترقصون.. تصل ضحكات الفتيات إلى نوافذ الجيران، وفي منتصف الليل يأتي البوليس، يتحقق من هويات الحاضرين، ويهددك بالاعتقال:كونوا مهذبين، كفى بربرية! نسأل عن السبب، فيقول لنا: إن الجيران قد استدعوه ليحافظ على هدوء البناية من مرحنا. تقول له: عيد ميلاد. يقول: لايعنيني…

أيها الجيران الطيبون! لماذا لم تنبهوني إلى أن فرحي يؤلمكم؟ لماذا تنهمر موسيقاكم المأخوذة من لحمي على نوافذي كل ليلة… ولا أحتج؟متى تخرجون من حلقي أيها الجيران، متى؟وحين تأوي إلى الفراش لتنام، تقتنع بأن الجيران كانوا على حق(..!).

في الصباح تعتذر إليهم قائلاً: لايحق لي أن أحتفل مادمت جاركم.. سامحوني أيها الجيران، فقد تبتُ عن الاحتفال).

أجل.. الاحتلال هو الاحتلال، والاستعمار هو الاستعمار، والإمبريالية هي الإمبريالية.. ولا لقاء بين الجلاد والضحية.. بين القاتل والقتيل.. ولالقاء بين السيد القوي والعبد الضعيف.. بين السجان المدجج بالسلاح.. والسجين العاري إلا من حلم مفتوح على كل المواعيد..ولاموجة أثيرية موصولة بين موسيقا السلام والمحبة والفرح.. وبين موسيقا الحرب والعنصرية والبربرية.. الحق والباطل لايلتقيان، فهما في حالة طلاق أبدي..

إذاً، عيد جلاء المستعمر الفرنسي الغاشم الغاصب عن سورية (نيسان 1946) التي ما انحنت يوماً لغازٍ قيدَ شعرة… هو عيد العزة والكرامة الشخصية والوطنية والقومية والإنسانية.. ورايته لاتعلو فوقها أيّ راية أخرى…

وعيد الجلاء يبقى في العميق من أرواحنا وعقولنا وضمائرنا ووجداننا وحياتنا، واقعياً وعملياً وحقيقة، يبقى عيد الأعياد وسيّدها وقِبلتها على مرّ الزمان..

بين نيسان 1946 ونيسان 2014 تعرَّضتْ سورية، الفؤاد الخافق أبداً بالوطنية والعروبية، لكثير من البَلْوَى والمِحن والفتن والتحديات والمواجهات… وفي حالتنا الراهنة تتعرَّض سورية – داخلياً وخارجياً – لهجمة بربرية دموية ظلامية باغية مقرونة بآفة موصوفة تُعدّ من أخطر الآفات – محلياً وإقليمياً ودولياً – ألا وهي آفة الإرهاب والفكر الوهابي التكفيري الفاشي…

تأسيساً على هذه المعطيات والوقائع على الأرض، لم يكن أمام سورية من خيارات سوى خيار حماية الاستقلال الوطني، والدفاع عن الأرض والسيادة باعتبارهما العمود الفقري للكرامة الوطنية والقومية.. والعمل على تحرير الأراضي العربية المحتلة وفي مقدمتها الجولان العربي السوري المحتل، وبالتزامن مع ذلك حماية الوحدة الوطنية، وتوفير الأمن والاستقرار، ورفض التفتيت والمذهبية والطائفية والحروب الأهلية.. والوقوف بإرادة صلبة لا تلين في وجه كل أشكال التبعية والذيلية والاحتواء.. من وصاية وإخضاع وإلحاق وهيمنة وإملاءات وعدوان.. وكذلك رفض ثقافة الاستسلام والتخاذل والتخريب والأمر الواقع والجمود والسلبية والتخلف.. وكل ألوان النفاق السياسي والفكري والأخلاقي.. ومكافحة الفساد والهدر والرشوة والاتكالية والفوضى والمحسوبيات وتجاوز القوانين والأنظمة.. والتمسك بخيار النزاهة والاستقامة والشرف والرقابة الحقيقية على أجهزة الدولة المختلفة، وتوفير الحياة الحرة الكريمة للإنسان أثمن وأشرف ما في الوجود.

إن الانتماء الوطني (والقومي) المجدي والفعّال لا يُبنى على شعارات بلا ضوابط تُطلق على غير هدى.. ولا على رومانسية حالمة وعواطف ومشاعر وأحاسيس سامية فحسب، بل لا بدّ، في الوقت نفسه، من أن يستند هذا الانتماء إلى رؤى فكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إنسانية، تاريخية ومستقبلية شمولية موحَّدة وموحِّدة.. ولا بدّ، كذلك، من أن يستند هذا الانتماء إلى وعي وطني سليم معافى ينهض على ثقافة وطنية عميقة موصولة بوعي علمي معرفي متقدم ومتطور.. وإذا لم يحصل ذلك فإن هذا الانتماء، بل الوجود أو الكيان السوري برمّته يصير ريشة في مهب الريح، أو على الأقل يصير ضعيفاً هشاً قابلاً للكسر في أي حين..

إن المعطيات السياسية والتاريخية تقول لنا بلا مواربة: إذا ما أردنا، حقاً، أن نبني الهوية الوطنية الحضارية لسورية، ولا سيما في حالتنا الراهنة، بناءً حقيقياً فعّالاً.. وأن نعمل على ترسيخها والتمكين لها في مختلف الحقول (…) فلا بد من أن نلفظ من قاموسها مفردات: العرقية، العصبية، القبلية، الفئوية، الطائفية، المذهبية، الحزبية (الشرنقية)، الإيديولوجية الانعزالية، التكفيرية، التضييق والشدة والانغلاق، والتعصّب الأعمى الذي يذهب بالبصر والبصيرة والقلب معاً وفي آن واحد.

وفي النتيجة لا بد من أن تكون الهوية الوطنية حالة حضارية ذات أفق تقدمي، ديمقراطي، علماني، منفتح، متعدد الألوان، سَمْح وإنساني لا يقبل، من حيث المبدأ، الإلغاء والإقصاء والتهميش والإرهاب بكل مظاهره وجنباته، ويرفض العنف بأشكاله المختلفة وتجلياته المتعددة.. لأن الحضارة (لن تكتسب الصفة الإنسانية بصورة نهائية إلا إذا ألغت بصورة نهائية مبدأ العنف في علاقات الإنسان بالإنسان وبالعالم).

فتحية إلى شهداء الجلاء وشهداء الوطن، وكل عيد وسورية بخير وأمان.

العدد 1104 - 24/4/2024