امتياز تصنيع الإرهابي

قدّم اختراع النقود تغطية ذكية للنهب والسلب إبان التبادل الاقتصادي البدائي، فارتهن صعود الحضارات وزوالها بسطوة القوة وتراخي قبضتها. وتراوحت نسبية الأخلاق وقيم الحق والعدالة، بين هدنة الرخاء والرفاه الاجتماعي، وقيود التأقلم وفق معايير الفئة الراجحة. ومع صعود تاريخ الأمم الاستعمارية، توطدت عنصرية المال المنهوب من نسغ الشعوب، لتمزق العالم وفق تصنيفات أولى وثانية وثالثة. وتفتق ذهن المستعمر عن خدعة تصنيع الإرهابي، الذي يتم تحريكه كدمية حسب ما تقتضيه المصالح التجارية. وغدت هذه الوسيلة سلاحاً ممتازاً لإعادة توزيع الغنائم والأسلاب تحت مظهر دعائي، يدعم سياسة خلق العدو المتربص، ويضبط وفق إيقاعه نبض المجتمع المحلي وعلاقات التوافق مع الشركاء الخارجيين. مما جعل الحضارة الغربية، مجرد واجهة تستر حقيقة الثراء المدعم بالامتيازات والمتحصن بالدروع البشرية.. وضمن هذا المدى يغوص الفيلم البريطاني (الدارة المغلقة CLOSED CIRCUIT) للمخرج (JHON GROWLY بجرأة، فيواري جثة الحقوق الإنسانية للمواطن البريطاني ومن هو في حكمه، معرجاً بموضوعية عالية على آلية تصنيع الإرهابي الأصولي. التي تملك العقلية البريطانية حقوق سبقها منذ ما يقارب المئتي عام، حين أطلقت جواسيسها في أرجاء البلاد العربية، ليدرسوا طبائع الناس ومواطن ضعفهم. ومن خلاصة التجسس عزلوا جرثومة الوهابية، ودشنوها في مستعمراتهم الهندية قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً، في إطار اقتتال مسيحي إسلامي، وئد الطابع الصوفي الإسلامي في الهند، ليبقى وجه وهابي ينتشر في كل مكان، انطلاقاً من أرض الحجاز. 

يبتدئ الفيلم بمشهد مركب من عدة صور، تمثل رصداً مكانياً لتفجير انتحاري في أحد شوارع لندن، يعقبه اعتقال تركي مسلم. ثم تكليف محامي دفاع (Rebecca Hall ) للمتهم وفق مبادئ الحقوق البريطانية، وممثل للادعاء العام (Eric Bana). ويجبر الاثنان على المرور بإجراءات قانونية صارمة توحي للمشاهد بمتانة النزاهة القضائية البريطانية، بينما يثبت الواقع أن التشدد في تقصي التفاصيل الصغيرة للحياة الشخصية للمحامين، ما هو إلا ذراً للرماد في العيون، لصرفها عن ملاحقة خفايا الأروقة الخلفية للسياسة البريطانية. كاقتحام الحياة الشخصية للإرهابي التركي، والعبث بأمن أسرته وتحريكه كدمية تحت الطلب في ألمانيا للقيام بعمليات مشبوهة، ثم تكليفه بالتفجير الانتحاري في لندن، تدعيماً لخلق رهاب العدو الأصولي وبث شعور عام بالهلع المقترن بتهديد الأمن القومي، تمهيداً لدفع آلة الحرب العسكرية نحو استنزاف المزيد من مال دافعي الضرائب، لشن العدوان على المستعمرات المحتملة في أفغانستان والعراق وسورية، والمقنعة بذريعة مكافحة الإرهاب وتطبيق الديمقراطية.

يدفع أحد المحامين الشركاء حياته ثمناً لاكتشافه حقيقة الإرهابي المصنّع في بريطانيا، وُيقتل الإرهابي في السجن شنقاً، وُيلاحق محامي الدفاع وابن الارهابي منعاً لوصولهما إلى المحكمة.. ورغم استماع القاضي في جلسة مغلقة إلى الأدلة التي تثبت تورط أجهزة أمنية بريطانية، تطوى القضية تحت بند عدم كفاية الأدلة، ويعاقب محامي الادعاء ويهدَّد بالقتل إن أطلق لسانه مجدداً، بينما يتم التحفظ على محامية الدفاع بعد تدخل أحد القضاة لصالحها.. وفي الإطار الخارجي للمشهد السينمائي يتعالى هتاف المحتجين على قضايا بيئية لا تمس بمصالح الحاكمين الفعليين لبريطانيا.. وهو مفهوم خلص إليه سابقاً الروائي البريطاني جون لي كاريه في روايته (مدير الليل)، حين فضح دور النبلاء الانكليز في تجارة السلاح المحصنة بالتواطؤ العالمي، مشيراً إلى امتهان الكرامة المتواصل للكائنات الإنسانية المصنفة بالصغيرة في عالم يدار بالخوف لا بالإحسان! لذا بين خدعة النقود وامتياز تصنيع الإرهابي، يتنهد بون تاريخي شاسع من قلق الأزمنة العصيبة، ومساحات منهكة من التلفيق والكذب والرياء تحت مسميات التحضر..

العدد 1104 - 24/4/2024