مطبّات الاختراق العاطفي

تتقاطع إحداثيات الأقدار لتمنح كل إنسان دفقة محددة تتطور وفقها مداركه، وتترك له حرية اتخاذ القرار ضمن مدارات معلومة.. أي أن شروط البدء بالتجربة الحياتية ونقطة الختام مفروضة مسبقاً، بينما ترتيب الأحداث وتنسيق أهدافها، لتعطي معنى تكاملياً يفضي إلى مخرج توافقي، هو ما يؤسس لبهاء اللعبة الوجودية وعظمتها.. ورغم ذلك تتكئ دوافع الإنسان الأعمق على خصوصية المساحة المتاحة له في الصغر وفاعليتها في تقرير مصيره لاحقاً، تلك المساحة التي تبطن الصدوع العاطفية والخواء الروحي المتناسل من جيل إلى آخر.. فيتدحرج السؤال بين المتباغضين حول تبعات الإهمال المتراكم، وعلى عاتق من تلقى مسؤولية الحفاظ على تماسك الأسرة.. لنفاجأ بإجابة قاسية وجريئة يبسطها المخرج  JOHN WELLS في فيلمه AUGUST:OSAGE COUTY، توازي صدمة الواقع المتواري وراء الأقنعة المحببة..

يتبنى الإنسان قناعاته الأولية وفق الاعتياد وعقيدة التشابه مع الآخرين، ثم يتدرج نحو تلمس التغيير المتوافق مع ارتقائه في سلالم المدركات.. فتنشأ الممانعة من الوسط المحيط ما يجعل اختراقه سهلاً عند بروز المنعطفات العاطفية الحرجة. كما حصل في عائلة فيوليت MERYL STREEP التي تلقت دفعة الأنانية الأولى من والدتها حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها. حين تاقت إلى شراء حذاء تتقرب به من صديقها في المدرسة، فما كان من الأم سوى أن استدرجتها إلى فخ الحماسة، لتصدمها في عيد الميلاد، إذ لفت حذاء قذراً مثقوباً بورق جميل وقدمته للطفلة الحالمة، لتسخر من خيبتها أياماً دون أن تشتري لها الحذاء. وهذا الموقف قتل الثقة بالذات في نفس الطفلة ودفعها لسلوك منهج اللؤم ذاته الذي تتبعه أمها معها. فتعاظمت الأنانية في داخلها وأثرت على طريقة تفكيرها في علاقتها بالآخر، بدءاً من اختيارها لزوج المستقبل، المبنية على الانجذاب الجنسي، دونما اعتبار لمواهبه كشاعر وكاتب. ثم علاقتها ببناتها الثلاث القائمة على الإهانة والسخرية المبطنة بقالب المزاح، وعلاقتها مع شقيقتها الوحيدة ماي فاي، القائمة على الغيرة، التي أشعلتها الأم بينهما بتفضيل إحداهما على الأخرى. وهو ألم ابتلعته فيوليت بصمت على مر السنين، وخاصة حين أضيفت إليه الخيانة وعلاقة الزنى العابرة، التي استبعتها ولادة تشارلز. وبدلاً عن مواجهة المواقف بحزم، اعتاد الزوج إدمان الكحول، وأدمنت هي الحبوب المخدرة أسوة بوالدتها. بينما ألقت باربرا JULIA ROBERTS نفسها في أحضان زواج غير متكافئ، أما كارين فتركت المنزل وتخبطت في مسارات مخزية، لتنتهي في أحضان رجل، يتحرش عند أول فرصة بالمراهقة جين ابنة باربرا. وإيفي العانس التي انتظرت عبثاً في منزل ذويها أن يلاحظها رجل ما، فتعلقت بأخيها نصف الشقيق.. دراما عائلية مغرقة في الأسى، تنبئ عن الدوران العقيم في متاهة الخواء الروحي، حيث يتطور كل فرد بمعزل عن الآخرين، دونما مشاركة عاطفية. دوامة يعطلها الزوج العجوز بانتحاره، بعد أن يوظف فتاة لتدير شؤون المنزل وأمور المتابعة الطبية لفيوليت المصابة بسرطان الفم.. ويعطي الشابة قبل اختفائه آخر مؤلفاته التي تتحدث عن مصادفات الحياة البسيطة، ودورها في تفتّح النفس على الفرح والبهجة.. فكان الكتاب لحظة وداع ألقى فيها المحارب آخر أسلحته قبل أن يستسلم للهزيمة، مذكراً بالبرود العاطفي الذي انتظم حياة زوجية مديدة، وألقى بظلاله على حيوات بنات ثلاث، هن ثمرة النفوس الميتة العاجزة عن التواصل الحقيقي المبني على الأخذ والعطاء..

استدعى سوء إدارة الأزمة الجوانب المظلمة للشخصيات المتواترة على مسرح الأحداث، وسلط الضوء على أزمة التسلط ضمن الأسرة. وبيّن كيف يدمر الاستفزاز المتواصل والمشاجرات العقيمة أواصر المحبة، فيفسح مكاناً للابتزاز العاطفي عبر تثبيت عقدة الذنب وجلد الذات.. بينما أثر الفشل في تبني خيارات منقذة، إلى تأصل التصلب الداخلي وفقدان المرونة، وبالتالي عدم الثقة بالآخر، واحترام خصوصيته وخطوط دفاعاته. مما أوصل فيوليت إلى الخندق المسدود، فحاولت الهرب بعيداً، ولكن ما نهرب منه يتجدد عند كل منعطف نقابله.

العدد 1104 - 24/4/2024