مهرجان برلين السينمائي.. «دبّ ذهبي» آسيوي بامتياز

الصراع على كرسيّ مهرجان  برلين السينمائي لم يخلُ من مناكفات. شنّ إعلاميون حملات مقنّنة انصبّت لعناتها تباعاً على اختيارات المسابقة. بعد كل عرض، تزداد الشتائم على نصوص عدّوها بلا طعم سينمائي، حتّى إنها لم ترحم فيلم (فحم أسود، جليد رقيق) للصيني دياو ينان، الذي خطف (الدب الذهبي) و(جائزة أفضل ممثل) نالها (لياو فان) في مفاجأة صاعقة، إذ كانت الأنظار مصوّبة على تحفة المخرج الأمريكي ريتشارد لينكليتر (صبا)، لقطف مجد برلين. الأمر الذي عكس شرخاً بين ذائقة لجنة اختيارات، ومعايير لجنة تحكيم، وهوس نقّاد وصحافيين بالاعتراض والشكوى واللاإنصاف. يبدو أن هذا الشرخ لن يحقّق معادلته أبداً.

(فحم أسود…) بوليسي النزعة. ينتمي إلى نوع (الفيلم نوار) الأمريكي الولادة الفرنسي التسمية. أثير بمزاجيته الكامدة التي استعارها من التعبيرية الألمانية، وظلال مشهدياته المتأنّقة، وكرب أبطاله وأقدارهم الدمويّة. كينونات محاطة بانكسارات ومؤامرات وعُقَد درامية، توصلهم في نهاية مطاف مغامراتهم الملعونة إلى فواجع ذاتية. تتحوّل هذه الأخيرة إلى طامّة شخصية في حياة محقّق شرطة سابق شاب يدعى جانغ زيلي، يقوده عناده إلى تورّطه في فكّ خيوط ونوائب جرائم غامضة ومعقّدة، تحوّله إلى طريد خطايا متتابعة. مع فشل زواجه، يصبح عالمه فارغاً ومدمَّراً ومنسلخاً عن آدمية حقّة. رجل ذو مظهر بائس وعنيف يقرّبه من معتوهي الشوارع ومدمنيه. كائن جائل على الدوام، يملك قوة القانون، لكن من دون القدرة على ترتيب ناموسه. هذا الرجل الفاشل والمهرّج هو المعادل الدرامي لقوّة القتل وفعله ومعايشته التي تتجلّى بأطراف مقطّعة لضحايا مجهولي الهويّة، مرمية على أحزمة مناجم فحم. تنتهي حياديته مع تصفية زميل حميم على يديّ قاتل طريد، وقبلها مقتل رفيقين له في تبادل رصاص مع شقيقين مجرمين، في مشهد مدهش بتقشّفه، امتاز بظرافته وعبثيته ووحشيته وسرعته، يُذكر بتشكيلات أفلام الفنلندي المميّز أكي كاوريسماكي، خصوصاً في (أضواء في الغسق) – ،2006 من ناحية تلويناتها الفاقعة، وهندسة توزيع شخصياتها وحوارياتهم المختزلة التي تقترب من النُّكَت.

يتحوّل لغز القاتل، الذي يتشبّه بشخصية (زودياك) -،2007 للمخرج الأمريكي ديفيد فينشر، من إغراء إلى مسّ مجنون بشابة تعمل في مغسلة ملابس، ادّعت أن الضحية زوجها الذي اختفى منذ سنوات خمس. يجد جانغ نفسه غارقاً في هوى المرأة الصموت، كلّما اقترب من فكّ اللغز. بيد أنه، في واقع الأمر، يعيد صوغ ذرائع حياته: انتقامه المؤجّل، ملء فراغات خيباته الشخصية وخساراته، عودة وعيه إلى مسرّات الحياة المتمثّلة بالحب، التنقّي من أوزار زيجة فاشلة وأبوّة لم تتم، إرْهَاف فطنته التي تقوده إلى سفّاك دماء، هو زوج الشابة قبل أن ترديه رصاصات القصاص إثر وشايتها به للحبيب وشرطته.

الباهر في نصّ المخرج ينان، هو نمذجته للأدوار التي اعتمدت على طبقية واضحة، ذلك أن القاتل وضحاياه يتشاركون في أصول وضيعة. إنهم خميرة عصرنة صينية وحشية، صوّرها المبدع دونغ جياسونغ بوَفرَة لونية وظلال وإضاءات مختلفة وفضاءات مضغوطة بصقيع عدائي. وحدها الشابة وو تشيشين (التايوانية كواي لون ميي) تلبّست الخيط الواهي بين الخير والشيطنة. دموعها مفاتيح بوح ملتبس، فهي من جهة تشير إلى مصائبها، ومن أخرى التماسها الفكاك من إثم عميق، يؤدّي لاحقاً إلى نمّها بزوج فتّاك، والمشاركة في إنهاء دمويته. إلى ذلك، صوّر المخرج ينان مشهدياته ضمن عوالم مهمّشة ورَذِلة على شاكلة صالون حلاقة، ومحل قمار، وحافلة نقل تحوّلت إلى مطعم شعبي، وساحة تزلج مرتجلة، وحمامات شعبية، وأخيراً عمارات سكنية متهالكة تنطلق منها، في المشهد الختامي، ألعاب نارية يوجّهها مجهول نحو المحقّقين وعَسَسهم على شكل قنابل ضوئية، في إشارة إلى أن الغلاظة الاجتماعية تتخفّى تحت طيّات كثيرة، وهي قابلة للانفجار في أي وقت أو ظرف، تماماً كما بشّر بنزعاتها مواطنه جيا جانغكي في رائعته (لمسة خطيئة)، التي هزّت مهرجان (كانّ) الفرنسي في دورة العام الماضي.

العدد 1105 - 01/5/2024