الحوار.. ضيف يبحث عن مكان

(الحوار) لفظة طالما سمعنا تردادها في السنوات الأخيرة التي عايشنا خلالها الأزمة، وكان الهدف من إطلاقها محاولة حلّ المشكلات العالقة بطرق سلمية مبنية على لقاء الأطراف المتخالفة واجتماعهم حول طاولة يبسطون عليها ما تباينت حياله وجهات نظرهم للوصول إلى تراض في الحلول يجنّب البلاد مآسي حرب تستنزف مواردها البشرية، وتصدِّع  الديموغرافيا السكانية وتفتت البنية الاجتماعية، وفوق كل ذلك تهوي بقدراتها ومكانتها إقليمياً وعالمياً.

 ولكن ما حدث أن ماتت هذه الكلمة بعد أشهر من ميلادها إن لم نقل إنها ولدت ميتة،  ولم تجد سبيلها إلى التطبيق العملي والمشاركة الحقيقية الفاعلة في أزمات البلاد وخلافاتها.

 ونظراً لبريقها الخلاّب وجرْسها الرّنان حاولنا الاستعراض الإعلامي بإقامة بعض ما سميناها ب (جلسات الحوار) أو (اللقاءات الحوارية)، إلا أنها لم تنتج شيئاً على صعيد الحلول ولم تغيّر مثقال ذرة من الأرض المشتعلة. فبدلاً من أن تخبو نيران الاقتتال كان يشتدّ لهيبها وتلتهم الضحية تلو الضحية، حتى بلغت مرحلة سُمِّيت معها ب (الحرب الأهلية).

 إن من حق الباحث أن يتساءل عن الأسباب التي أوردتنا هذه النتيجة الممقوتة، وأوصلتنا إلى هذه الحالة المزرية، وبشيء من التأمل التحليلي نستطيع أن نقول:

 كنا نعيش في بيئة لا تعرف للحوار ثقافة ولا معنى، وكانت مشكلاتنا لا تعرف سوى طريق واحد للحل، (القوة) بأنواعها، سواء على صعيد الأسرة أم المدرسة أم المجتمع، وهكذا الدولة على اعتبارها ناتج شرعي لمجتمعها، وكانت ثقافةٌ كالحوار حكراً على فئة قليلة من نخبة المثقفين فضلاً عن أن الحاجة إليها لم تكن مُلحّة كما هي اليوم، مما جعلها تبدو ترفاً فكرياً، الأمر الذي دعا إلى التثاقل في نشرها وتعميمها.

 وما أُدرِكت ضرورتها إلا بعد أن انجلت الأيام عن خطر داهم من شأنه أن يودي بالبلاد وأهلها، فجاءت كدور المسعف الذي يبذل وسعه لإنقاذ مصاب بين يديه إلا أن جهوده باءت بالفشل.

 ونحن اليوم بصدد الكشف عن أسباب هذا الفشل، فنوضح مؤكدين أن أول شرط لبدء أي حوار هو الاعتراف بالطرف الآخر وتقبّله كما هو، وهو أمر لا يزال يمُارى فيه حتى الآن، وحتى إن تم الاعتراف، فالآخر ليس إلا خائناً عميلاً مجرماً لا يريد خيراً للبلاد وأهلها.

 ثم إن وجود الثقة أو بناءها ركن أساس في أية عملية حوارية، وهو شرط منعدم مفقود، وكيف سيتوفر مادام الآخر موصوماً بما لا يدع مجالاً إلا لنبذه ومحاربته؟!.

 كما أن لغة الحوار تقتضي أن تسكت القوة ويخرس معها القتل والتدمير، لكن المشاهد هو العكس تماماً، ففي الوقت الذي حاول فيه الحوار أن يعلو بصوته كانت القوة تلجمه وتكتم أنفاسه في محاولة لإخضاعه لمطالبها، حتى بلغنا مرحلة دعيت ب (الالتفاف على الحوار)، والالتفاف على الحوار يكون بالعودة إلى الاستعانة بالقوة لتحدد شكل الحوار وماهيته وتفرض سلطانها عليه، فيكون لسان الحال: كلما ملكتُ من القوة أكثر  صبَّت نتيجة الحوار في صالحي.

 إذاً الحوار في هذه الحالة ما هو إلا تحكيم للقوة، ورفض للغة الحق والمنطق، أي إظهار أن ما يدعى حواراً ليس إلا كذبة أو قناعاً تتخذه القوة ستاراً لتحقيق أهدافها، وبهذا المنطق والمعيار لا تثريب على من يعتمدها حلاً لمشكلاته، إنما يلام على عدم تستّره بلفظ رقيق يبرّر جرائمه.

 من هنا نستطيع الوصول إلى خلاصة أثبتناها سابقاً، وهي أن صراعات البشر لن تُحلَّ سلمياً إلا بعد التوزيع المتوازن للقوة فيما بينهم، عندئذ يكون للعقل كلمته، ويومئذ يجد الحوار مكانته.

العدد 1107 - 22/5/2024