أزمة منتصف العمر

في مقتبل العمر يضج اللحم الحي بمطالبه ومستحقاته، وتتنحى الروح جانباً كهمس خافت يفرمل الاندفاعات السريعة لضراوة البقاء وقسوة تحديات المصير. وفي منعطفات الزمن الأخطر والأجمل، نعقد الصداقات والتحالفات بسهولة أكبر، فاليأس متربص كامن في الزوايا الأبعد، والحنكة لا تزال كنزاً مخفياً يتجمع.. وبعصف الجرأة والتهور نقتحم المجهول، ونقتفي آثار دروب غير مألوفة، تستغرقنا بمدها الجارف وحلقاتها المتداخلة، فتجبل خمائر كهولة قادمة، تستبدل شغف الحب وصخبه بألفة هادئة تهادن الزمن المتسارع. وربما عندئذ نتساءل بقلق وحيرة: ماذا فعلت بنا الأيام ولماذا؟ كما حصل مع إيفا بطلة فيلم stop talking))، التي أضاءت مع مجايليها أزمة منتصف العمر ومطباتها.

يفتتح المخرجNicole Holofcener) ) فيلمه بصور واقعية بسيطة، ترصد متاعب المدلّكة  إيفا اليومية في مهنتها، التي تعكس أيضاً شكل الحياة العادي للزبائن الكهول والخالي من المجاملات. بداية بالثرثرة الفارغة المفرطة في مدح الذات، وصولًا إلى عدم مراعاة شعور الآخر وتقلّص نوعية المسؤولية والرهافة الإنسانية، تحت مظاهر اللامبالاة العبثية التي تبطّن يأس اجتياز المرحلة الوسطى.

ترافق إيفا المطلّقة منذ عشر سنوات، صديقتها الطبيبة وزوجها إلى حفل بسيط، حيث تلتقي بألبرت، البدين والمطلق أيضاً، ويبدأ تبادل الآراء بمرح مبالغ يخفي قلق الوحدة. وتتكون نواة الدخول إلى عالم جديد، قوامه غربلة المخاوف والخبرات السيئة المكتسبة أثناء الحياة المشتركة. ومن جهة أخرى نراقب توترات الحياة الزوجية للطبيبة، التي تتخذ شكل هوس بترتيب الأثاث وترصّد الخادمة على أبسط الهفوات، بينما تأخذ عند زوجها شكل التصلب في تطبيق عدالة طفولية برومانسية مفتعلة. أما في حالة زوجة ألبرت السابقة، الشاعرة الجميلة المعروفة، فتتخذ صفة الحاجة الماسة إلى الصداقة المفتقدة.

يتكئ المخرج على تفاصيل صغيرة جداً، تفسح تدريجياً أمام المشاهد تأمّل المشكلات التي يعاني منها المجتمع بأسره، فتمنح الفيلم عفوية مدهشة للفيلم، كغياب الاحترام في تعاملات المراهقين مع آبائهم، مشاكل تربية الأبناء عند انفصال الوالدين، ثم قلق الآباء من تبعات انفصال الأبناء عن كينونة العائلة، الفراغ العاطفي عند الأم العازبة، الذي يترجم بالتصابي وهاجس الشباب الدائم، مشكلة البدانة وتأثيراتها في نفسية الزوجين، المهاترات والهذر اليومي تنفسياً عن جحيم الاستمرار في حياة عائلية متماسكة ظاهرياً، التحرش الجنسي أثناء العمل..

تتعرف إيفا على مهنة ألبرت في أرشيف التلفزيون، وتعجب بذاكرته الثرية في هذا المجال، التي أعادت إلى الذهن الإهمال الأسري في مراحل الطفولة المبكرة. بينما أتاح التجوال في عالم الشاعرة الجميل تلقّي خبرة ثقافية عالية أهّلتها لدور المرشدة في الرحلة الإنسانية. ورغم التباين بين الخبرتين وخطأ الحكم عليهما بمقياس واحد، إلا أن ذكاء الشاعرة ومصداقيتها يأخذان الأولية عند إيفا.

تبدي إيفا مرونة عالية في تعاملاتها مع الآخرين، فهي تتغلب على مشاعر النفور من ترهل ألبرت وبدانته، وتتقبله شريكاً محتملاً، وتتعامل بمحبة مع كلوي صديقة ابنتها، وتسد غياب أمها المتصابية، وتتجاوز صلف تيس، ابنة ألبرت وغرورها، مما يلقي في قلب المراهقة بذرة الألفة والمحبة. تصغي بثقة لبوح الشاعرة وتحليلها عن الاختناق الذي سبق تجربة انفصالها عن ألبرت. ولكن سعادتها بالصداقة العفوية مع الشاعرة، انعكست سلبا على علاقتها بألبرت، فبدأت تتقمص نفور طليقته وآراءها حوله، مما أدخل العلاقة في متاهة العدائية والشك ثم أوقفها. ليأتي دور تيس في تقريب الجسور بين المتخاصمين، فتدرك إيفا أن المرونة تكون أحياناً أهم بكثير من الذكاء الحاد، وأن لكل تجربة زواج إيجابيات وسلبيات. وبالتالي يتوقف نجاح أي تجربة على قابلية كل طرف لاستيعاب الآخر وقبوله. وربما لا يكفي تطوير الهوايات وحده للتغلب على منزلقات الكهولة، فلابد من مرآة الآخر المنقسمة لتحقيق الرؤية الأوضح والأكمل..

العدد 1104 - 24/4/2024