العمارة ثقافة في وجه التدمير والعنف

ربما الحديث عن العمارة اليوم وسط كل هذا الدمار ضرورة وربما ضرورة قصوى، ولا أتحدث هنا عن عمارة الحجارة والأبنية الحكومية والمرافق العامة والدور السكنية والمدارس والجامعات ودور العبادة القديمة والحديثة والمدن القديمة الأثرية منها والتي لا يزال بعضها مأهولاً وعلى قيد الحياة منذ مئات وربما آلاف السنين، وغيرها، والتي دمرت على مساحة البلاد بطولها وعرضها، بل أتحدث أولاً عن الإنسان السوري صاحب الحضارات المتلاحقة، البنّاء المعماري الذي أدهش الغرب قبل آلاف السنين – كأبولودور الدمشقي صاحب عامود تراجان الذي لاتزال روما بعد دمشق تشهد له إنجازاته الهامة، وغيره معماريون سوريون كثيرون ممن عملوا وأبدعوا تحت مسميات حضارات أخرى عبرت أرضنا بعد أن تشبعت بشغف السوريين بالإبداع والبناء، وحملت معها بعضهم عندما غادرت بلادنا لتنقل تأثيرهم إلى بلاد العالم الأخرى، لكن اليوم ماذا تفعل هذه الحرب المريرة الدائرة في البلاد منذ ثلاث سنوات؟ إنها تحاول تدمير روح الإنسان السوري ولا تزال، وربما منذ زمن أبعد بكثير قد نعجز عن تحديد بدايته.

وبما أن العمارة جزء من تاريخ إنجازات العقل الإنساني الحر وأحد التجليات المادية والروحية لهذا العقل، يمكننا أن نتلمس أحد أسباب تخلف العمارة في سورية عنها في باقي بقاع العالم عامة، والعالم النامي على أقل تقدير، لكن البحث في أسباب تخلف العمارة في سورية يحتاج إلى جهود وأبحاث عدد من الأشخاص الأكاديميين والمختصين في عدة مجالات، أولها المختصون في علم هندسة العمارة والفن المعماري، وليس آخرها المختصين في علم الاجتماع وعلم تخطيط المدن وربما الاقتصاديين، لكن من المؤكد أن سياسة الدولة عبر عقود طويلة ساهمت بقسط وافر بتخلف هذا المجال، بما أنها المخطط الأول وربما الأخير، لفشلها في وضع سياسات ناجعة لتأمين سكن لائق وصحي لمعظم السكان، مما شجع نمو أحزمة الفقر حول العاصمة والمدن الكبيرة وانتشار التعمير الشعبي غير المدروس في ما يدعى مناطق المخالفات، إذ تنتشر معظم هذه الأحياء والمناطق خارج التنظيم العمراني المديني، ولا تتوفر في بيوتها الشروط الصحية أو البيئية المناسبة لسكن الناس، وهي في معظمها مساكن شعبية عشوائية تفتقد إلى التنظيم والذوق العمراني والخدمات الضرورية، ففي معظمها لا يوجد بلديات تقوم بعملها المطلوب منها، وربما معظم الناس لا يدركون حقاً ما هو عمل البلدية غير رفع القمامة من الحاويات وقبض الرشا على رخص البناء غير المشروع، وربما دورها في المساهمة بتشويه المدن والبلدات. إذاً، لا توجد توعية اجتماعية لدور البلديات الهام والمتعارف عليه في معظم دول العالم في التخطيط العمراني الخاص في كل مدينة وبلدة، فالذكاء المكاني يستخدم في العمارة أي مزج عناصر مثل الزمان والمكان والطابع المحلي كأدوات في التصميم المعماري لكل مدينة أو بلدة، إلا بنسبة محدودة جداً في بعض البلدات التي يقطنها أهالي بعض المغتربين الذين ساهموا بجهود خاصة بتنظيم بلداتهم، ويلعب عمل البلديات دوراً هاماً في ترسيخ تقاليد ثقافية واجتماعية حضارية من خلال نشر الوعي الحضاري بين السكان بحقوقهم وواجباتهم تجاه مدنهم وأماكن إقامتهم وأماكن مزاولة أعمالهم اليومية وهواياتهم، أي تجاه مجالهم الحيوي الذي يمارسون فيه فعل الحياة والتفكير بوجودهم، لذلك أقترح أن يشار في وسائل الإعلام الرسمي وغير الرسمي إلى ضرورة تطوير دور البلديات لتلعب دوراً حقيقياً في تطوير المجتمع، وربما يجب أن يشار إلى ذلك في المناهج التعليمية المدرسية والجامعية، ويجب عقد الندوات للتعريف بدورها وبواجباتها تجاه الدولة والمجتمع، وذلك لعلاقتها المباشرة بترسيخ أسس المواطنة الحقيقية، لأن البلديات هي صلة الوصل بين المواطن والدولة.   

و إذا كانت العمارة أحد تجليات الهوية الثقافية للشعوب، فكم هي الصورة التي أمامنا اليوم مخيبة للآمال؟! نظرة سريعة إلى مدننا كفيلة بإشعارنا بالحزن العميق، لكن بما أن المستقبل ملك الأجيال الشابة، يجب أن نتحلى بالأمل وربما بثقافة الأمل والشجاعة مقابل ثقافة اليأس الناتج عن مشاهد التدمير اليومي نتيجة الحرب الدائرة في البلاد، وربما يدفع الدمار الكبير الذي حدث في السنوات الثلاث الأخيرة للتفكير بمستقبل العمارة السورية الحديثة كجزء من إعادة بناء الإنسان السوري الذي سيكون واجباً عليه إعادة قراءة تاريخه الحضاري القديم واستكشاف هويته بعد كل ما مر به من محن، فبعد كل ما مرت به البلاد ستكون بحاجة إلى إعادة بناء شاملة من شبكات طرق حديثة إلى جسور حديثة وأماكن عامة حديثة ومنشآت صناعية ومشافٍ، إلى صروح ثقافية حديثة ومتكاملة، ستكون بحاجة ليس فقط إلى إعادة بناء ما دُمِر، بل إلى رؤية ناضجة لحاجات الوطن والمواطن، وكأننا نبني بلادنا كلها من جديد، أي إننا بحاجة إلى نهضة معمارية تقوم على أسس صحيحة، البلاد كلها جميع المدن والأرياف وربما البادية، التعمير والتنمية لسورية كلها من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، وسيكون على الجهات المعنية في الدولة إتاحة نوع من الشراكة الحقيقية بالرؤى مع الشركات الخاصة الوطنية، وسيكون عليها أن تسمح للمخططين المعماريين بالتعبير عن رؤاهم المعمارية بحرية، لإيجاد الحلول المناسبة لربط أطراف المدن بمراكزها بأقصر الطرق الممكنة دون المسّ بالمدينة القديمة والأبنية ذات الطابع التاريخي، بل بالعمل على إظهار روح المدينة الحقيقية والعمل على ترسيخ هوية معمارية سورية حديثة من خلال إعادة إحياء السمات المعمارية الأصيلة، لكن باستخدام أحدث الحلول المعمارية الحديثة وتطوير مواد البناء وتصميم الأبنية بما يتناسب مع البيئة المحلية لكل مدينة، ودراسة طرق إعادة إسكان مهجري المناطق المنكوبة بمساكن ودور تتمتع بظروف صحية وجمالية وخدمية تليق بالمواطن السوري، ليست فكرتنا عن العمارة السورية لقرن من الزمان مبهجة، لكن لا بد لنا من نشر ثقافة العمارة الصحيحة في وجه ثقافة التخلف والتدمير والموت.

العدد 1105 - 01/5/2024