التفريغ الروحي والفراغ العاطفي..

يكتمل امتلاء الروح بفراغ النفس من نوازعها وخبائثها، فيشع القلب نوراً وامتناناً.. وحين يبذر الثقل المصلوب على جداري الزمان والمكان نداءات الغواية، تنهض التجارب الحدية وتتسول خلود النشوة الآنية.. فيستقطب الشعور بالفراغ النفسي جوعاً عاطفياً شرهاً، ينذر بهاوية سوداء تبتلع كل ما يقع في طريقها. وكذلك يخلّف تراكم نزعات الحيوات المعترضة، طيفاً دخيلاً يجرد الروح تدريجياً من نسغها النوراني فيخبو بريقها.. وهذه الحقيقة المرعبة تتجلى في سطوة العنف، حين تستدعي القسوة المفرطة ظلمات الخوف والألم، فتحتضر الرحمة والشفقة، وينغلق، أمام النفس العاتمة، درب الانعكاس عبر الشغف ونقاء الحنين.

ضمن هذه الزاوية يحاول الفيلم الكنديRESONABLE DOUBT تقديم رؤياه؛ فيحاكي مخرجه PETER HOWITT أصداء رواية (طقوس في الظلام) لكولن ولسن، مُظهراً الكيفية التي يسبغ فيها الفراغ العاطفي الحاد، طابع الشرعية القدسية على انتقام سادي يتشفى بأنين المعذبين..

تدور قصة الفيلم البسيطة حول محام للادعاء يصدم بسيارته رجلاً مترنحاً، ثم يهرب بعد أن يستدعي له سيارة الإسعاف. ليتبين لاحقاً أن الرجل أفلت من مضطهدٍ سامه العذاب الوحشي، فصدمه المحامي المخمور، حين اعترض طريقه فجأة هارباً من زقاق جانبي. وتبدأ سلسلة من التحقيقات تثبت وجود ضحايا آخرين تعرضوا للتعذيب قبل أن يقتلوا، مما يقود إلى قاتل متسلسل مجهول. أما المحامي فيدفعه إحساسه بالذنب للتقصي حول الرابط المشترك الذي يجمع بين الضحايا، سعياً منه لإثبات براءته. ولكن الدائرة تطبق عليه، حين يكتشف أن القاتل يختار ضحاياه بعناية من صفوف المحكومين، الذين يفرج عنهم بعد مدة زمنية معينة، فيرتادون نادي الإصلاح التمهيدي قبل انخراطهم في المجتمع. وبما أن للمحامي أخاً غير شقيق من أصحاب السوابق، أفرج عنه مؤخراً، فإن القاتل يستدرجه ليقوم بتعذيبه، عقاباً للمحامي على تدخّله في مسيرة الانتقام. وحين يقبض عليه تكون التهم غير كافية لإدانته، فيطلق سراحه بعد أن يهمس في أذن المحامي متحدياً أن الشك المنطقي قد يقود إلى النتائج، لكنه لا يضعها في سياقها الحقيقي.

يستدرج القاتل المحامي إلى فخ، فيسجن بتهمة التسبب بالقتل، في حين يتوجه نحو منزل المحامي لتعذيب زوجته قبل قتلها. وتنشط المطاردات الساخنة لتنتهي بمواجهة بين الرجلين، القاتل والمحامي. حيث يسوغ القاتل التعذيب الوحشي لضحاياه، بنداء الفراغ في داخله تعطشاً للامتلاء بأنين المعذبين وتضرعاتهم. فالقاتل كان الناجي الوحيد من مذبحة عنصرية، طالت زوجته وابنته الصغيرة، فيما تُرك ليشهد التعذيب بعد ضربه بوحشية. وتكاد الصورة أن تقترب من قدسية العدالة لولا أن القاتل احتفظ بالهويات الشخصية لضحاياه كتذكار لانتقامه المريع. ثم شرع في محاولة تعذيب زوجة المحامي أمام عينيه، كي يذيقه غواية الإحساس بالفراغ الذي يعقب مشاعر المرارة والغضب العاجز. دون أن ينسى تغليف وحشيته بحق حماية المجتمع من تبعات إطلاق سراح مغتصبي الأطفال، والمشبوهين المدانين الذين أنهوا عقابهم القانوني، وباتوا مستعدين لتكرار إجرامهم. وهنا يتهكم القاتل بسخرية على غفلة القانون حين يطلق سراح مغتصب، فيتلقفه في الغابة أثناء محاولته اغتصاب طفلة ابتعدت عن أمها، في مشهد غامض اختاره المخرج ليبدأ به فيلمه.

يؤدي دور القاتل الممثل الشهير Samuel l Jackson المختص بمناورات الشر العظمى، فتعكس عيناه لحظة المواجهة وحشية الحقد المتعطش للانتقام، في مشهد رائع يعطي للفيلم توجهه الفعلي. فنداء الفراغ هوة متسعة تطالب بالمزيد دونما توقف، على حساب انزياح الضياء الروحاني للكينونة الممتحنة.

العدد 1104 - 24/4/2024