مغزى انتخابات الرئاسة السورية

يؤمل أن يكون النظام السوري قد استوعب المغزى الحقيقي لموقف الشعب السوري الأصيل في هذا التصويت الجارف، وأنه لا عودة لإعادة إنتاج هذا النظام لنفسه؛ وأن هذا الشعب بعد مئات الآلاف من الضحايا وملايين المهجرين والدمار المريع لثرواته وممتلكاته، لن يتخلى عن طموحه المشروع في إصلاح وتغيير جذري، ينقل سورية إلى نظام ديمقراطية وعدالة اجتماعية حقيقيتين.

حسمت هذه الانتخابات عدداً من القضايا، منها قضية الاستحقاق الدستوري للنظام السوري. ولو لم تتم هذه الانتخابات لكانت القوى المتآمرة على سورية، من عربية ودولية، اتخذت من قضية هذا الاستحقاق مادة جديدة في حملتها لتبرير تآمرها المجنون على سورية شعباً وأرضاً. أي أن إجراءها أو عدم إجرائها لن يغيّر شيئاً في موقف هذه القوى المتآمرة. ومن المفارقات أن بين الضالعين في التآمر على سورية أنظمة لا تعرف معنى الدستور ولا استحقاقاته. ومثل هذا المنطق المفلوج الذي يتخذ من الشيء وضده غطاء لجرائمه شائع وليس قصراً على هؤلاء المتآمرين. فنتنياهو الصهيوني، كان لا يكل من الزعم بأن القيادة الفلسطينية ليست شريكاً في عملية السلام، لأنها لا تمثل إلاّ جزءاً من الشعب الفلسطيني، وحين تمّ الاتفاق على وضع حد للانقسام، جن جنونه هو ومعسكره، الذين كانوا يراهنون على استمرار الانقسام الفلسطيني وتعميقه.

 لكن القضية المفصلية والأهم بما لا يقاس التي حسمتها هذه الانتخابات، هي قضية موقف الغالبية العظمى من الشعب السوري من المؤامرة على سورية شعباً ووطناً وتراثاً، بعد مرحلة مصيرية، لعب فيها التضليل الإعلامي وغير الإعلامي دوراً فعالاً في بلبلة أقسام من السوريين الشرفاء، التواقين بحق إلى التغيير والإصلاح الحقيقي الذي يستحقونه. وما دمر بالضربة القاضية كامل بنيان إعلام المتآمرين على سورية وأربكهم، ليس كثافة التصويت في الداخل السوري، الذي يمكن التشكيك باعتباره حصيلة ضغوط النظام المختلفة، ولكن كثافة التصويت في الخارج ولا سيما في لبنان حيث يوجد العدد الأكبر من السوريين الذين اضطروا لمغادرة وطنهم؛ فهؤلاء في لبنان عرضة لضغوط المتآمرين أكثر بما لا يقاس من ضغوط النظام السوري. بمعنى آخر، كانت هذه الانتخابات استفتاء لا يحتمل التأويل على موقف الشعب السوري الحي من المؤامرة والمتآمرين عليه وعلى أرضه ومستقبله، كما كانت تعبيراً عن طموحه الإنساني المشروع إلى الاستقرار بعد طول معاناة وإراقة للدماء والخراب المريع.

وإذا كانت المنافسة في هذه الانتخابات شكلية، إلى حد كبير هذه المرة، إلاّ أنه حتى هذا الشكل الجديد، أي أكثر من مرشح، يمكن له أن يكون نقطة بداية وانطلاق نحو انتخابات تعددية حقيقية وفعالة، وهو ما بستجيب لأحد طموحات الشعب السوري الفعلية.

لكن نتائج هذه الانتخابات تكتسب معنى ومدلولاً خاصين، إذا جرى أخذها في إطار التطورات الجارية فوق الأرض السورية. فمن جانب يواصل الجيش السوري تطهير المزيد من الأرض السورية من عصابات القتلة المرتزقة؛ ومن جانب ثان، تتفاقم الصراعات الدموية والاقتتال بين هذه العصابات المأجورة، وكذلك بين مستأجريها وبخاصة السعودية وقطر؛ ومن جانب ثالث، تتقدم عملية المصالحة الوطنية التي تحقق الهدوء النسبي وقدراً من الاستقرار لمزيد من القرى والبلدات السورية وتفتح إمكانات عودة أهلها إليها، بعد معاناة الرحيل واللجوء.

أما الجديد على مستوى الدول الإمبريالية الضالعة في التآمر على سورية، فلعل تصريحات وزير الخارجية الأمريكية  جون كيري في بيروت أخيراً تجسد هذا الجديد، حين دعا حزب الله الذي يصنفونه منظمة إرهابية، لبذل جهوده مع الآخرين لتحقيق تسوية سلمية للأزمة السورية!؛ ولا ينال من مغزى هذا التصريح لكيري في بيروت ما أعلنته إدارته في واشنطن، في الوقت ذاته، عن تزويدها للقتلة في سورية بسلاح نوعي. كما يلاحظ في هذا المضمار أن تنبؤات الدوائر الغربية والإسرائيلية والرجعية العربية بتحديد الأيام حتى سقوط النظام في سورية، قد اختفت وتلاشت. بكلمة أخرى: لقد لخصت هذه الانتخابات حصيلة مجموع هذه التطورات.

لكن يؤمل، بالمقابل، أن يكون النظام السوري قد استوعب، من جانبه، المغزى الحقيقي لموقف الشعب السوري الأصيل في هذا التصويت الجارف، وأنه لا عودة لإعادة إنتاج هذا النظام لنفسه كما كان على مدى أكثر من أربعة عقود؛ وأن هذا الشعب، بعد مئات الآلاف من الضحايا وملايين المهجرين والدمار المريع لثرواته وممتلكاته، لن يتخلى عن طموحه المشروع في إصلاح وتغيير جذري، ينقل سورية إلى نظام ديمقراطية وعدالة اجتماعية حقيقيتين؛ وأنه دون مثل هذا الإصلاح والتغيير ستتعقد إمكانات إعادة بناء سورية من جديد وترميم جراحاتها العميقة، بعد تصفية وجود المرتزقة فوق الأرض السورية.

أكثر من ذلك، فمثل هذا التحوّل في الوضع السوري نحو الإصلاح والتغيير الديمقراطي الحقيقي، سياسياً واجتماعياً، هو أقوى سلاح للرد على المتآمرين وبخاصة في الخليج، بل وتحويل معركة الشعب السوري معهم من الدفاع إلى الهجوم. فأخشى ما يخشاه النظام العربي الحالي، وفي المقدمة حكام الخليج الذين ما زالوا يحكمون شعوبهم بأعراف القرون الوسطى ويبددون ثرواتها الطائلة في التآمر على الشعوب العربية لصالح الإمبريالية والصهيونية، هو قيام سورية الديمقراطية والمتحررة من نفوذ الدول الإمبريالية بحيث تغدو منارة ملهمة، لشعوبهم كما لبقية شعوب المنطقة العربية، التي تعيش منذ أكثر من ثلاث سنوات حالة تمرد وغليان سياسي واجتماعي.

العدد 1105 - 01/5/2024