ماذا يحدث في الموصل؟

بعد سقوط الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، بيد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف اختصاراً باسم (داعش)، أصبح مصيرها مجهولاً، وأصبح سكان الموصل بين مطرقة مسلحي (داعش) الذين أتوا من خارج المدينة، وسندان الجهات السياسية العراقية المختلفة التي تحاول الحصول على مكاسب حزبية وطائفية ضيقة على حساب المواطن البريء.

وقبل تناول ما يحدث في هذه المدينة المنكوبة قد يكون من الضروري تسليط الضوء على تنظيم (داعش) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في الآونة الأخيرة.

ما هو تنظيم (داعش)؟ وما هي أهدافه؟

في نيسان عام 2013 تشكّل تنظيم داعش، وقُدّمَ على أنه اندماج بين ما يسمى (دولة العراق الإسلامية) التابع لتنظيم القاعدة، الذي تشكّل في تشرين الأول من عام 2006 والمجموعات التكفيرية المسلحة في سورية المعروفة بـ(جبهة النصرة)، إلا أن هذا الاندماج الذي أعلن عنه قيادي (دولة العراق الإسلامية) أبو بكر البغدادي، رفضته (النصرة) على الفور.

وبعد ذلك بشهرين، أمر زعيم (القاعدة) أيمن الظواهري بإلغاء الاندماج، إلا أن البغدادي أكمل العملية ليصبح (داعش) (الدولة الإسلامية في العراق والشام) واحدة من أكبر الجماعات الإرهابية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

للتنظيم اسم آخر يتم تداوله في المناطق التي يسيطر عليها في سورية والعراق، إذ بات المواطنون فيها يرمزون إليه بكلمة (الدولة). ويتبنى هذا التنظيم الفكر السلفي الجهادي (التكفيري)، ويهدف المنضموّن إليه إلى إحياء ما يعتبرونها (الخلافة الإسلامية) وإعادة تطبيق الشريعة، حسب منظورهم الديني ومنطلقهم العقائدي.

وأثار هذا التنظيم ( المصنف إرهابياً) جدلاً طويلاً منذ ظهوره في سورية، حول نشأته، وممارساته، وأهدافه وارتباطاته، ما جعله محور حديث الصحف والإعلام، بين التحاليل والتقارير، وضاعت هوية هذا التنظيم المتطرف وضاعت أهدافه و ارتباطاته بسبب تضارب المعلومات حوله. ففئة تنظر إليه على أنه أحد فروع القاعدة في سورية، وفئة أخرى تراه تنظيماً مستقلاً يسعى لإقامة دولة إسلامية، وفئة ثالثة تراه صنيعة (النظام السوري) للفتك بالمعارضة وفصائلها.

(داعش) في العراق .. من التأسيس إلى دخول الموصل

على الرغم من أن هذا التنظيم حديث الظهور على الساحة السورية، إلا أنه ليس بتشكيل جديد، بل هو الأقدم بين كل التنظيمات المسلحة البارزة على الساحة السورية خاصة والإقليمية عموماً. تعود أصول هذا التنظيم إلى عام 2004 حين شكل الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي تنظيماً أسماه (جماعة التوحيد والجهاد) وأعلن آنذاك مبايعته لتنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، وأصبح ممثل تنظيم القاعدة في المنطقة، أو ما سمي (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين). برز التنظيم على الساحة العراقية إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، على أنه تنظيم جهادي ضد القوات الأمريكية، ما جعله نقطة جذب للشباب العراقي الذي يسعى لمواجهة القوات الأمريكية الغازية بلاده، وسرعان ما توسع نفوذ التنظيم وقوته، وأصبح من أقوى الميليشيات المنتشرة والمقاتلة على الساحة العراقية.

في عام ،2006 خرج الزرقاوي على الملأ في شريط مصور معلناً عن تشكيل (مجلس شورى المجاهدين) بزعامة عبد الله رشيد البغدادي. وبعد مقتل الزرقاوي عُيِّنَ أبو حمزة المهاجر زعيماُ للتنظيم في العراق. وفي نهاية العام نفسه تم تشكيل تنظيم عسكري يختصر كل تلك التنظيمات ويجمع كل التشكيلات الأصولية المنتشرة على الأراضي العراقية، إضافة إلى أنه يُظّهر أهدافها عبر اسمه… (الدولة الإسلامية في العراق) بزعامة أبو عمر البغدادي.

تنظيم (داعش) لا يخفي نيته في بناء دولته، بل أكثر من ذلك فقد نشر خريطةَ دولته المرتقبة بعد سيطرته على الموصل.

التطورات الأخيرة أظهرت أن حدود دولة (داعش) الافتراضية بدأت تلوح في الأفق. فالتنظيم لم يعد يكتفي بفرْض نفوذه على مناطق حساسة في العراق وسورية، بل يسعى ليمتد إلى الكويت والأردن وفلسطين والسعودية.

يسيطر التنظيم اليوم على مساحة تمتد من محافظة نينوى وقسم من الأنبار غرب العراق، إلى ريف حلب الشمالي قرب الحدود السورية – التركية. كذلك من الريف الشمالي لدير الزور، إلى جنوب الحسكة، وكامل الريف الغربي، وصولاً إلى محافظة الرقة قاعدة التنظيم الأساسية.

ويبدو أن التنظيم يسير وفق استراتيجية معينة، إذ إنه يسعى لبناء دولة تستند إلى مقومات اقتصادية قوية أساسها فرض سيطرته على منابع النفط في مناطق دير الزور السورية والموصل العراقية.

إضافة إلى ذلك، يبدو أن استراتيجية التنظيم تلحظ أهميةَ الماء، فعمل على السيطرة على مسارات المياه العذبة، إذ إن محافظتي الرقة ودير الزور السوريتين تلتقيان بمحافظة الأنبار العراقية عبر نهر الفرات، كما يسعى التنظيم لفرض سيطرته على مناطق واسعة عند مجرى نهر دجلة.

يرفع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام شعار (باقية وتتمدد)، لكن علامات الاستفهام الأهم تدور حول قدرة التنظيم على البقاء في المناطق التي دخلها، وسط غياب المعلومات عن عدد عناصر التنظيم وقدراته الفعلية.

وبعد أن سيطر التنظيم على مدينة الموصل أصدر ما يسمى (وثيقة المدينة) جاء فيها: (المجالس والرايات بشتى العناوين وحمل السلاح منها غير مقبول، لقول الرسول (ص) أن من يريد شق عصاكم فاقتلوه)، محذراً في الوقت نفسه من أن (تعدد المشارب والأهواء يثير النعرات والأنفة). وأضاف التنظيم أن (الأموال التي كانت تحت يد الحكومة الصفوية (المال العام) أمرها عائد إلى إمام المسلمين وهو يتصرف فيها بما يراه مناسباً، وليس لأحد أن يمد يده إليها)، محذراً من (مراجعة العمالة ومغازلة الحكومة وتجارة الخمر والدخان وباقي المحرمات). وتابع (موقفنا من المشاهد والمزارات الشركية في العراق هو أن لا ندع قبراً إلا سويناه ولا تمثالاً إلا طمسناه)، داعياً النساء في الموصل إلى (الحشمة والستر والجلباب والخدر وترك الخروج من المنزل).

وختم التنظيم بيانه الذي سماه (وثيقة المدينة) بالمقارنة بين (الأنظمة العلمانية من ملكية وجمهورية وبعثية وديمقراطية)، وما وصفه بـ(اكتواء الناس بنارها وذوقهم سعيرها)، مؤكداً أن (حقبة الدولة الإسلامية وأميرها أبو بكر القرشي) قد بدأت.

ولم تتضمن الوثيقة إشارة واضحة لمصير المكونات الدينية والقومية في محافظة نينوى، كالمسيحيين والأزيديين والشبك، وطريقة التعامل معهم في ظل تردد أنباء عن هدم العديد من دور العبادة لهذه المكونات وإحراقها.

إن إزالة هذه المعالم الحضارية والدينية، دليل على الفكر الظلامي الذي يعتنقه القائمون بهذه الأفعال الشنيعة التي لا تمت إلى الحضارة بصلة، وتؤكد أنهم عناصر همجية تعود بفكرها إلى عصور مظلمة سحيقة، فهذه التماثيل ومراكز العبادة دليل على عظمة المدينة بتاريخها العريق الممتد إلى بدايات التاريخ وتأسيس المدنية، وعلى إبداع أبناء هذه المنطقة وتعاضدهم، بغض النظر عن الفروق الدينية والمذهبية والقومية، على مدى الأزمنة وفي سائر مجالات الحضارة الإنسانية.

أزمة العراق.. مأساة الموصل

أدت مأساة الموصل إلى عودة الحديث عن تقسيم العراق إلى ثلاث دول قائمة على أساس طائفي وقومي، وتناسى الجميع أن لا العشائر والقبائل وحدها قادرة على بناء أُسس دولة حديثة، ولا المرجعيات الدينية التي يُفترض بها أن تهتم بشؤون السماء وتترك شؤون الناس لمن كان بها خبيراً، فإذاً بها تتدخل بكل شاردة وواردة في محاولة لسوق المواطن العراقي إلى الجنة بالعصا، ووقعت في فخ مزج الدين بالسياسة، مما قد يؤدي إلى انفجار شديد يُهدد بُنيان المجتمع بأسره. ذلك أن الدين ثابت بمبادئه وأوامره، حلاله وحرامه، بينما السياسة متغيرة حسب المعطيات والظروف. وتجاهل البعض أبسط شروط بناء الدولة الحديثة، فعند العمل على تأسيس دولة ما يجب أن يكون لها على الأقل حدود طبيعية تفصلها عن باقي الدول، حتى في حال العمل انفصال الإقليم عن محيطه، فكيف إن كانت حدود هذه الدولة الطبيعية تمتد بين رؤوس الجبال والسماء؟

حل هذه الأزمة قد يكون بسيطاً جداً، وذلك بالعمل على تعزيز شعور المواطنة لدى مختلف أطياف مكونات الدولة العراقية، والابتعاد عن الممارسات الطائفية والنزعة الانتقامية التي سادت بعد سقوط نظام صدام حسين وتفعيل العمل بمؤسسات الدولة وتطويرها عن طريق محاربة الفساد ومحاسبة المتورطين به، إضافةً إلى الانفتاح على كل المكونات القومية والطائفية وإشراكها في العملية السياسية التي تهدف إلى تحقيق الخير العام، والعمل على تحقيق التنمية المتوازنة، والسماح للأقاليم التي تحتوي أراضيها ثروات باطنية أن تستفيد من عائدات هذه الثروات بهدف تطوير بنيتها التحتية والعمل على تعزيز ارتباطها بالمركز. عند ذلك فقط سيتحد الشعب العراقي بشيبه وشبابه، رجاله ونسائه، لمحاربة هذا الفكر الظلامي الوافد على المنطقة ودحره.

وفي النهاية، يُخطئ كثيراً من يعتقد أن تدخل واشنطن المباشر في هذه الأزمة يمكن أن يساعد على حلّها، فهذا التدخل لن يؤدي إلا إلى تعزيز الانقسام العمودي الحاصل في العراق حالياً ويدفع إلى تسريع عملية التقسيم التي يُبشّر بها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، ويستكمل عملية تدمير الدولة العراقية التي بزوالها تزول دولة محورية تُشكل العمق الاستراتيجي للجبهة الشرقية في محاربة إسرائيل.

العدد 1105 - 01/5/2024