هل دخل العراق مرحلة التقسيم العرقي والطائفي؟

بعد السيطرة الداعشية على أجزاء من شمال العراق عبَّر ستيفن (كوك الخبير بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي)، عن سعادته ببدء تنفيذ مخطط تقسيم العراق، قائلاً بأنّه (لم يعد من المنطقيّ للناس الذين يعيشون هناك أن يبقوا في بلد واحد).

والحقيقة أن خطط تقسيم العراق منذ اقتراح جو بايدن تحويل العراق إلى فدرالية وخلق مناطق الحكم الذاتي، عام 2006 التي تحولت اليوم إلى دعوات لحلّ كاملٍ للدولة وإنشاء قوى مستقلة تماماً، هذه الخطط لن تؤدي إلى الاستقرار في العراق، بل ستوفر ملاذًا لداعش وغيرها من المنظمات المتطرفة، يمكّنها من إخضاع السكان المحليين والتخطيط للمزيد، بغية السيطرة على معظم العراق وتوسيع أراضيها في دول المشرق العربي المحيطة، بداية لتحقيق (الخلافة الإسلامية) العابرة للحدود الوطنية. والحقيقة أن أطرافاً عدة تنهمك للاستفادة من هذه الفوضى الشاملة لتنفيذ مشاريعها الانفصالية والتقسيمية الخاصة في العراق، على نحو أصبح يهدد فعلاً لا قولاً وحدة الأراضي العراقية وسلامتها، ووحدة شعبها بكل مكوناته الدينية والقومية، وبالتالي يهدد هوية العراق العربية. ومنذ البداية وقبل الغزو الأنجلو- أمريكي للعراق واحتلاله، كانت المخططات الأمريكية تضع على أجندتها تقسيم العراق لأهداف معروفة تتعلق بإلغاء هويته العربية وإضعاف احتمالات التقارب العربي حتى لا نقول الوحدة العربية في المشرق العربي على الأقل، وتسهيل السيطرة الأمريكية الصهيونية عليه وعلى المنطقة كلها، والأهم ربما من ذلك كله من أجل ضمان أمن إسرائيل وضمان تفوقها وتكريسها قوة إقليمية عظمى في المنطقة قادرة على تنفيذ مشاريعها التوسعية ومشاركة أمريكا في السيطرة عليها، بوصفها الوكيل الأمريكي المعتمد الأول فيها. ولم تختلف أكاذيب أمريكا بشأن المحافظة على وحدة العراق عن أكاذيبها الأخرى سواء ما تعلق منها بأسباب الغزو أو بأهدافه، التي أصبحت معروفة للقاصي والداني على حد سواء.وقد كانت تطلعات الزعامة الكردية العراقية دائماً هي أخطر التطلعات الانفصالية والتقسيمية، وطالما تحالفت الزعامات الكردية مع الدول الاستعمارية بدءاً ببريطانيا وانتهاء بإسرائيل من أجل تحقيق هذه التطلعات غير المشروعة، بالرغم من أن أفضل ما حصل عليه الأكراد في أماكن وجودهم كان في العراق. فقبل الغزو الأنجلو- أمريكي الأخير للعراق، ومنذ فرض الحصار عليه بعد العدوان الثلاثيني في عام 1991 وفرض ما سمي في حينه (مناطق الحظر الجوي) شمال العراق وجنوبه، بدأت مظاهر الانفصال الكردي في شمال البلاد تتزايد، برعاية الولايات المتحدة وبحماية طيرانها الحربي. وكذلك بالتهديدات التي تطلقها الزعامات الكردية باجتياح كركوك، وهو ماحصل فعلاً اليوم بعد السيطرة الداعشية على أجزاء مهمة من شمال العراق، وبضمنها الموصل، تحت سمع الإدارة الأمريكية والأتراك وبعض الدول الخليجية وبصرهم، بل وبدفعٍ منهم. ولم يكن شيء من ذلك ليحدث لو كانت الإدارة الأمريكية صادقة في المحافظة على وحدة العراق. وثمة تصريحات أمريكية تؤكد موافقة هذه الإدارة على تقسيم العراق، منها ماجاء على لسان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر الذي قال يوم 28 كانون الأول2004 في حديث أجرته معه شبكة تلفزيون (سي إن إن) الأمريكية حول الموضوع: إن واشنطن يجب (أن لا تقبل بهيمنة شيعية في العراق)، وأنه (إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد، فإنه لا مصلحة لنا في إبقاء العراق موحداً). وأوضح كيسنجر في حديثه أن: (الأفضل لنا عندئذ أن نترك كل مجموعة إثنية متنافسة تشكل حكومتها الخاصة…)! لقد كذبت الإدارة الأمريكية، كما كذبت الزعامة الكردية، وكلاهما لا يهمهما ولا يريدان ولا مصلحة لهما في المحافظة على وحدة العراق، وليس على أجندتهما غير تقسيمه، كما أنهما تنويان وتخططان وتعملان لتقسيمه إلى دويلات طائفية وعرقية..ويؤكد تقرير نشرته وكالة (رويترز) في 26 حزيران2014أن إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة أن استقلال إقليم كردستان في شمال العراق أمر مفروغ منه، ويؤكد التقرير أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بحث الأزمة العراقية مع وزير الخارجية الصهيوني (أفيغدور ليبرمان)، مبيناً أن المتحدث باسم ليبرمان نقل لكيري أن: (العراق بدأ يتفكك أمام أعيننا وسيتضح أن إقامة دولة كردية مستقلة أمر مفروغ منه). وفي تشرين الأول من عام2000 نشر موقع (المؤتمر الوطني العراقي) المعارض للنظام العراقي السابق خبراً مفاده أن مصدراً عسكرياً رفيع المستوى كشف في بروكسل عن خطة أمريكية ـ إسرائيلية وضعت تفاصيلها وتسربت إلى الاتحاد الأوربي، تهدف إلى تغيير الخارطة السياسية والحدودية في منطقه الشرق الأوسط وإزالة دولة العراق من الكيان العربي، وهي الخطة التي وصفها المصدر بأنها (خطرة)، مؤكداً معارضة الاتحاد الأوربي لها، ليس فقط لتهديدها المصالح الأوربية في المنطقة، بل لتسببها في خلق بؤر صراع جديد في المنطقة وحروب أهلية داخل العراق وبين العراق الجديد ودول الجوار. وأشار المصدر إلى أن الحرب الأمريكية على العراق ترتكز على هدفين ولا هدف واحد كما هو معلن: الاستيلاء على منابع النفط العراقي، وتحقيق التوسع الإسرائيلي لاستيعاب آلاف المهاجرين اليهود من أمريكا وروسيا وأوربا، وهذا لا يتم إلا بتقسيم العراق وتقزيمه. ذلك أن العراق المقزم يخدم أهداف أمريكا وإسرائيل، فأمريكا لا تريد عراقاً مقتدراً وقوياً لأنه قد يفلت من يدها في أية لحظة نتيجة إغراء امتلاكه للقوة، ويحرر اقتصاده وأراضيه. أما إسرائيل فإنها أشد رغبة من أمريكا في تقزيم العراق، بل هي صاحبة المخطط التقسيمي الأصلي للعراق، ويشهد على هذا (وثيقة عوديد ينون مستشار مناحيم بيجن المعنونة بـ استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات، التي صدرت عام 1981)، لأنها وريث بابل، وبابل تعني رمزياً (الأسر البابلي)، من جهة، ولأنها تمتلك مقومات إقامة قوة عظمى إقليمياً. وتفيد بعض التقارير الصادرة عن الاستخبارات الباكستانية أن أمريكا وإسرائيل اتفقتا على تقسيم العراق بإقامة الدولة الكردية في الشمال. وقد وافقت إسرائيل على تزويد الدولة الكردية بـ 150 ألف يهودي. كما أن الجيش الإسرائيلي وافق على تقديم الأسلحة للدولة الكردية الجديدة، وبضمن ذلك صواريخ (ستنجر) وصواريخ أرض ـ جو ومعدات عسكرية وميدانية أخرى.كما تقرر تشكيل جيش كردي ـ يهودي مشترك تدعمه إسرائيل للحفاظ على استقلال الدولة الكردية الجديدة مقابل منح الشركات الإسرائيلية امتيازات باستغلال الثروات النفطية والمعدنية في الدولة الكردية في شمال العراق.

مما تقدم يمكننا القول: إن إسرائيل ستكون الرابح الوحيد من تقسيم العراق وتحويله إلى دويلات طائفية وعرقية، تحقق المصالح الأمريكية الصهيونية في المنطقة، أما الدول العربية التي تتفرج، وبعضها يساعد على التقسيم، بطرق عدة، فعليها أن تنتظر حتى يصل إليها الطوفان، ووقتئذ لن تنجو دولة منها من الوقوع في شرِّ أعمالها!

العدد 1105 - 01/5/2024