«تعلى وتتعمر يا دار محمية براجك»!

مر الأسبوع الماضي وأنا أنتظر وأعد الأيام: أحد، اثنين،ثلاثاء،أربعاء،خميس ليأتي يوم الجمعة الموافق السادس من حزيران، اليوم المنتظر لزيارة بلدتي معلولا، بعد غياب هو الأطول في عمري، غيابٌ امتد منذ  الثالث من أيلول الماضي، أيلول معلولا الأسود.

رحلةٌ رافقت فيها مجموعة من  أهالي البلدة لنصل إليها، بعد أن غادرنا دمشق منذ الصباح الباكر، قليلاً دمشق ونعود.

كان الطقس جميلاً والطريق آمناً نوعاً ما ومسلياً، ومضى بسرعة برفقة الناس الطيبون.

ومع اقتراب الوصول، يعود إلى ذاكرتك  كل ما يمكن أن تراه بعد أشهر من كلام  وصور نشرها الإعلام ونقلها لنا  من سبقنا  لزيارة المكان، وتحضرك تفاصيل الحكاية المعلولية، حكاية كغيرها من الحكايات السورية بتفاصيلها المأساوية والهمجية.

اقتربنا..اقتربنا.. وأخيراً وصلنا، وصلنا بعد أن طالت غيبتنا، وعند وصولنا إلى مدخل البلدة قرأت عبارة ضخمة:

(معلولا ترحب بكم) عبارةٌ قرأتها مئات المرات وكيف لا وأنا ابنة البلدة وكم زرتها؟ لكن هذه المرة كان لها وقعٌ غير اعتيادي على مسمعي، وقعٌ يبشر بالخير والسلام، وقعٌ يبشر بانتصار الحياة وتراجع الموت والآلام.

منذ لحظة وصولنا بدأنا فوراً بزيارة القرية، نعم زرنا القرية بأكملها.القرية الصغيرة بحجمها والكبيرة بأهميتها.

كنت أمشي على دروب معلولا،أمشي على دروب ذاكرتي، أمشي على دروب هويتي.

أمشي في المكان  وكلّي حنينٌ وشوقٌ  وكأنني أريد أن ألتهمه،أن أحضنه،أن أبكيه بعد طول غياب،أن أعاتبه على البعاد.

أمشي ويغمرني الحنين.. تفاصيل الحنين، حنينٌ للجذور،حنينٌ للّغة،حنينٌ للنقاء والصفاء والسكينة،حنينٌ لذات أفقدتها الحرب الكثير من جمالها.

كان شعوراً غريباً ومواجهة صعبة وجريئة  لا تخلو من المقارنة بين ماهو الآن وبين ما كان.

كيف أصف الشعور والموقف والدمار والخراب والحرق والنهب وانتهاك البيوت والحرمات؟!

كيف أصف قرية أثرية، جميلة، وديعة  لا تحتمل كل ما تعرضت له من النار والبارود والعنف والضرب بالآلية العسكرية؟!

كنت طول الطريق ألتقط الصور،صور تضم المزارات الدينية والبلدة القديمة والقرية كلقطة بانورامية.

صورٌ توحي بالحزن مرة وبالأمل مرة أخرى. توحي بالتعب مرة والعزيمة مرات أخرى.

بيتٌ مهدوم جزئياً أو  كاملاً، صورٌ مبعثرة على الأرض كالذكريات التي تحملها، ألعاب ودمى للأطفال هنا وهناك، آثار الرصاص على الجدران، زجاج مكسور،أثاث مسروق كله أو بعضه، كتابات على الجدران تكفيرية، غبارٌ واتساخٌ وقذارة وانتهاكٌ لحرمة البيوت والخصوصية.

كم تعبت يا بلدتي، وكم تعبت يا سورية، لأن ما تعرضت له كل المناطق  فاق الاحتمال  والتوقعات!

صورٌ باتت تشبه بعضها  البعض في  كل المناطق السورية، فالبلد واحد والحال واحد والجرح واحد.

 وأما بعد، فالبكاء على الأطلال لا يجدي نفعاً ولا يبني وطناً.

فالشعب السوري شعبٌ جبار وصار حالة تدرّس بقدرة التحمل والتأقلم والثبات.

فكما يقولون (الحرب بعد الحرب) إشارة إلى ما ستحمله من مشاكل على كل الأصعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية…لكن أعتقد أن السوري سيعلم العالم (الحياة بعد الحرب) ويظهر قدرة جبارة على إعادة البناء بإيجابية.

فكلّي إيمان بسورية.. كلي إيمان بالسوريين وقدرتهم، وسنعود لنلتقط طاقة الحياة بداخلنا ومن حولنا لنستمر، ولا لن نستسلم وسنبني..

كُرمى لأرواح شهدائنا الأبرار.. سنبني

كُرمى لدموع السوريين وآلامهم.. سنبني

كُرمى لأطفالنا وشبابنا وأحلامنا.. سنبني

أحبكِ بلدتي..أحبكَ بلدي وحُفظت داراً للعزة والكرامة  وسأغني لكما:

(تعلى وتتعمر يادار محمية براجك

والعسكر داير مندار توقف عسياجك)

نحن العسكر هذه المرة، نحن من نحارب على أرضك لكن حربنا من نوع آخر، حربٌ تبني وتبني لترفع اسمك عالياً، كما كان وسيبقى.

العدد 1105 - 01/5/2024