كين سكوت يحتفي بالأبوة

بين الحلم والواقع مساحة تتمدد فيها الرغبات المؤرقة واستعارات الخيال المجنحة وارتدادات الخيبات المضنية. مساحة تعيد مفرداتها تشكيلنا لتغرسنا بعنف ضمن هوامش حياتية لم نتوقعها. قد يسميها بعضنا مصادفة هجينة تاهت بنا عن مساراتنا المرصودة، بينما يدعوها آخرون تقاطعات الأقدار المتشابكة والمرتهنة لقانون الفعل ورد الفعل.. وقد يستغرقنا التيه طويلاً فنتعثر ونتخبط قبل أن نعثر على كنزنا المختبئ تحت طبقات الانتكاسات المتراكبة، كما حصل مع بطل فيلم Delivery Man))، الذي راكم الفشل تلو الآخر في حياته، ليكتشف أثناء ضائقته المالية أنه خلق ليكون أباً رائعاً، جمع ذخيرته العاطفية لينثرها على أبنائه دونما تفريق..

تدور قصة الفيلم الطريفة حول رجل يدعى ديفيد، واظب على التبرع بالمني على مدى 33 شهراً بين عامي 1991 و1994 ضمن عيادة خاصة لعلاج العقم تحت اسم ستارباك. فاصبح الأب البيولوجي لـ 533 طفلاً، طالب 142 منهم بحقهم في كشف هويته الحقيقية. ورفعت القضية إلى المحكمة حيث عرضت مسألة انتهاك الخصوصية السرية للمتبرع. وناب عن ديفيد صديقه المحامي الفاشل بريت، والد أربعة أطفال هجرتهم أمهم، تاركة له مهمة العناية بهم.

أشرت المشاهد الأولى إلى طبيعة ديفيد الفوضوية، وعدم نضجه في مواجهة أعباء الحياة. فهو سائق شاحنة غير مؤهل، يستغرق أربعة اضعاف الوقت لإيصال اللحوم إلى الزبائن، وغالباً ما يتورط في مشاريع تنتهي بالإخفاق الذريع. بينما تخشى صديقته إيما على طفلها القادم من رعونته وافتقاده إلى المهارة اللازمة لتربية طفل. وبالتالي سيتوجب عليه إقناعها بجدارته كأب، ليس لطفلها فحسب بل للشبان والشابات الذين يحملون جيناته.

خلال عدة أشهر يتعرف عليهم تدريجياً من دون أن يصرح بهويته ويساعدهم في أمورهم الحياتية، فيشجع موسيقي الرصيف ويرفع معنوياته، ويصفق بحماسة للخطيب، ويهتف بعفوية للاعب كرة السلة أثناء المباراة، ويدعم بائع الخضروات، ويحمي الجميلة من تحرشات الرجال، ويحنو على المعاق ويأخذه في النزهات، يستوعب رعونة الممثل ويهيئ له فرصة للنجاح في امتحان القبول، ومع كريستين المدمنة على المخدرات يبدي شعوراً عالياً بالمسؤولية لحمايتها من تبعات الإدمان.. أطفال مثلوا شرائح مختلفة من البشر، وبضمنهم المنحرف والمثقف، جمعهم فضول التعرف على المتبرع الغامض. وحين كشف هويته فيغو وحاول الاستئثار به لنفسه، وأدخله في حوارات ثقافية طويلة أعيته، تذمر منه واشتكى لصديقه، مثل أي أب يعترض على إزعاج ولده. وتخلصاً من إلحاحه قام بتشغيله مع أعمامه في محل العائلة..

مع حوارات فيغو تطرح قضية الالتزام والمسؤولية الأخلاقية تجاه هؤلاء الأطفال، باعتبارهم ينتمون إلى العائلة أسوة بطفل إيما، أخوهم غير الشقيق. وهو توسيع لمفهوم الأبوة والأسرة بشكل عام، يجد صداه أثناء نقاش الجد لمسألة الديون المتراكمة على ديفيد، في تأكيد لأهمية العائلة، وكون الأبناء هم الثروة التي يجب الاعتناء بها قبل أي شيء آخر.   

 يبدو الفيلم وكأنه مكرس للدفاع عن الآباء وتلميع صورتهم، فجميع اللقطات تنصب حول إثبات حيازة الرجال لملكة الرعاية والحنان تجاه أطفالهم. فالمحامي الفاشل يتولى أمر تربية أطفاله بمهارة عالية، بينما شقيق ديفيد يبتهج بتغيير الحفاضات لطفله الرضيع أربع مرات في اليوم. ويبدو زخم العاطفة استثنائياً أثناء المعسكر الصيفي، إذ يتولى ديفيد بغبطة شواء اللحم لأبنائه، ومراقبتهم بسعادة وهم يمرحون..

أدار المخرج Ken Scott) ) مشاهده بحيوية مدهشة، منحت الفيلم طابعاً إنسانيا رائعاً، جعل توزيع المحبة على كل الأبناء أمراً متاحاً. وكان تجمّعهم في الساحة حول النافورة والعازف، إيعازاً بأن المستحيل ممكن وإن خالف الكثيرون هذه القاعدة.

العدد 1104 - 24/4/2024