مايكل كولاس… وثمن العدالة

تضعنا نسبية العدالة المتنازع عليها في مدارات احتمالات مقلقة، تبعث التشوش في دواخلنا المهزومة، بفعل تراكمات الأوقات العصيبة وما يرافقها من أعباء الذكريات السيئة.. فنبحث عن نقاط استناد تعيننا على تلمس موطئ أقدامنا، المجروحة أصلاً من وطء الألغام الكثيرة المزروعة في دروبنا الضيقة وطرقاتنا الملتوية.. من هذا المنظور نستطيع الإحاطة بتوجه الفيلم الفرنسي (مايكل كولهاس) الذي اعتنى مخرجه (أرنو دي باليير) بحالات العدالة الحرجة، حين يطوعها ذوو النفوذ لمصالحهم..

يختار باليير الساحة التاريخية الفرنسية إبان نهايات القرون الوسطى، ليسقط عليها منظوره الفكري، وينتقي لدور البطولة الممثل الدانماركي المعروف مادس ميكلسن، بوجهه الكئيب وملامحه المنحوتة بإزميل القسوة والوسامة المكبلة بالتيه والشك. وهذا الاختيار يسهل فهم معاناة إنسان ذلك العصر، وطريقة تعاطيه مع حقوق مكتسبة قانونياً، لكنها تتوافق مع النفوذ السياسي المدعم بالثراء..

كان مايكل كولهاس تاجر خيل ثرياً، أبرم صفقة مع أحد النبلاء تتيح له المرور عبر أراضيه مع خيوله مقابل نسبة معينة. لكن موت النبيل المفاجئ يضع التاجر أمام استعلاء أحد الورثة الممتلئ حقداً وتسلطاً، فيدفع أعوانه لمنع التاجر من العبور. ثم يساومه على رهن أجمل خيوله مع خادمهما، كي يكمل التاجر طريقه لتسليم بضاعته إلى أصحابها. وتبدأ القصة مع عودة مايكل ليجد خادمه شبه ميت من كثرة الضرب، وليكتشف أن البارون أمر أتباعه بدفع الحصانين الأسودين للعمل المجهد في الجر والحراثة، مما كاد أن يودي بهما. فيرفض استلامهما حتى يعودا كما كانا، ويمضي إلى المحكمة ليرفع شكواه أمام القاضي، لكن البارون يتدخل بنفوذه، فترفض القضية ويبلغ التاجر بحتمية استعادته لخيوله، وإلا تعرض للتغريم والسجن. وحين تذهب عشيقة كولهاس وأم ابنته لمناشدة زوجة البارون الصلح تضرب حتى الموت، مما يشعل نار الغضب في نفس التاجر المهان، فيرتدي درعه بعد أن يجمع أتباعه ويسلحهم. ثم يتوجهون إلى قصر البارون ويقتلون حراسه الساديين وزبانيته ويحررون السجناء، لكن البارون يهرب مع ولديه إلى دير الأميرة.. وتشكل الحادثة نواة تمرد شعبي يتسع مداه تدريجياً ليضم الفلاحين وكل المذلّين والمهانين. وحين يصل إلى مستوى الثورة التي تهدد الأميرة وهي رمز السلطة في تلك المنطقة، يحصل التفاف غريب يخلخل المد الجارف، ويوقع القطيعة بين الأحلام الثورية بتحقيق العدالة الاجتماعية، والبأس الحاسم الذي أهّل كولهاس لاكتساب صفة البطل الشعبي.. إذ يأتي رجل دين قزم يقتحم معسكره ويهز بموعظته ثقة كولهاس بعدالة إعدامه لأحد أتباعه السارقين، وتكون النتيجة تسليم السلاح مقابل ضمان حياة الفلاحين، وإلقاء القبض على كولهاس لسجنه ومحاكمته.

وفي اليوم المحدد للمحاكمة تحضر الأميرة لتعتذر بسخرية مبطنة للطفلة عن وفاة والدتها، ثم يسلم كولهاس حصانيه الأسودين كما كانا سابقاً، وبذلك يكون قد حظي بعدالته، أما حصة الأميرة من العدالة فتتمثل في قطع رأسه بتهمة قيادة عصيان مسلح!

مثّل الحصانان الأسودان رمز الكبرياء والجموح، فالتاجر كان ثرياً وبوسعه الاستغناء عن حصانيه حين طُلب منه ذلك، لكنه تمسك بحقه في استعادتهما سليمين. وبالتالي أودى به جرح الكبرياء نحو خاتمة عقيمة، إذ منعه من تطويع تمرده لخدمة المقهورين الذين آمنوا به. من جهة أخرى أذلّ جموح الذكر فيه مع انتهاك عشيقته بوحشية، فاكتمل عصف الأقدار بساحته. وحين رُدّ الاعتبار لكبريائه وجموحه، توجب عليه أن يخسر أبوته لابنته اليتيمة الوحيدة! وبذلك لعب الفيلم بجدارة ضمن المساحة الخطرة لقوانين العدالة الفرنسية المكرسة لحماية أصحاب الامتياز، وظل يناور حول الهامش الضئيل المتاح لتحقيق كرامة الإنسان..

العدد 1104 - 24/4/2024