خارج النسق

لا أذكر من قال: أنا لست بحاجة إلى سنوات تطيل حياتي، وإنما إلى حياة أملأ بها سنواتي.

الحياة ليست ثواني وساعات وأياماً، ليست (الزمن الميكانيكي) وإنما هي تجارب وخبرات يراكمها الإنسان ليستخلص منها تعميمات نظرية ومرجعيات يستفيد منها فيما تبقّى له من الأيام..

قال ماركيز في وصيته لنا: (يشيخ الإنسان عندما يفقد القدرة على الحب)، ربما سيقول أحدكم: هل جن الغلام، وما الذي دعاه للحديث عن الحب (المحبة)، في زمن المحنة، وسدول الظلام هل هو نكوص إلى شباب ولى ولن يعود، أم هو استدعاء للماضي أمام قسوة الحاضر وانغلاق المستقبل؟! ربما هذا وذاك، أو لأن اليأس في زمن المواجهة  شكل من أشكال خيانة الحياة التي تستحق أن تعاش.

فالمسألة ليست نكوصاً، وما سأقصه عليكم لم يكن في زمن الشباب، وإنما  حدث في أوج النضج والكهولة:

على شاطئ البحر الأسود، وقريباً من مصيف سوتشي،كنا مجموعات من الطلبة الدارسين في الاتحاد السوفييتي السابق القادمين من معظم دول العالم للتزود بالعلم والمعرفة التي تقدمها الدولة السوفييتية منحة لشعوب العالم.

هناك التقيت مع مجموعة أصدقاء قادمين من لينيغراد، وأنا قادم من موسكو في رحلة استجمام مجانية تقدم للطلاب، وفي أمسية بحرية رائعة، جمعت عدداً من الطلاب كان معهم شابة في مقتبل العمر بقوام مذهل، وشعر منسرح على الكتفين وابتسامة تضاهي شروق الشمس، سألت أحدهم: هل من صديق معكم للفتاة، فقالوا.. لا، فشكرت البحر والسماء والحياة.

تقدمت منها وقلت لها: أنا أعرفك منذ زمن وهذا ليس لقاؤنا الأول، فاستغربت قائلة: أنا لا أعرفك: ولم ألتق بك..

لماذا تتجاهلين أن المسافة بين الساحة الحمراء وساحة الأمويين ليست أبعد من زرقة عينيك عن لون البحر؟!

بدت الدهشة على وجه الشابة، وحارت جواباً، لكن الابتسامة والفرحة كانت مشبعة بالجواب..

عشنا معاً أكثر من عشرين يوماً.. بكل ما في الشاطئ من قدرة على امتصاص هموم المستجمين، وما في أماسي الرقص من طاقة على تجديد الحياة، وما في الرحلات عبر جبال القوقاز من جبروت وروعة.

وعند الوداع طلبت مني (نتاشا) أن أقول لها جملة لا تقل جمالاً عن جملة اللقاء الأول، لتكون لها زاداً في رحلة العودة وذكرى لقاء مر سريعاً، فوجئت بالطلب، وتحت تأثير العينين الصافيتين الدافئتين والشباب المتوقد حيوية وثقة قلت لها:

(اتهمت البحر السماء بسرقة زرقته، حزنت السماء، فكان المطر، غضب البحر، فكانت العاصفة وعندما رأيا زرقة عينيك تصالحا)! وكان الوداع..

في كل حقيقة شيء من الزيف، وفي كل زيف شيء من الحقيقة، خلاصة فيلم سينمائي اسمه (أفضل عرض) شاهدته منذ فترة فيه من الخير والجمال والحب والأمل، بقدر ما فيه من الشر والقبح والكراهية والخيبة.

ترى هل نقيم علاقتنا مع العالم وفهمنا له على أساس من وعي زائف، أو من الحقيقة، أو من تفاعلهما معاً؟ ولماذا نختلف ونتقاتل إذا كنا لا نعرف ما هو الحقيقي والزائف في وعينا وفي عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا؟! سؤال مربك ومحير.. مايزال متلهفاً للأجوبة.

العدد 1104 - 24/4/2024