غزة.. بين الصمود وقهر العدوان والمبادرات اللامتوازنة

في الوقت الذي يواصل فيه الشعب الفلسطيني صموده وتحديه للعدوان البربري على قطاع غزة الصامد، وبدلاً من التضامن الشعبي والرسمي العربي والدولي معه، تتكاثر المبادرات (العربانية) و(الدولية) للوصول إلى هدنة بين المعتدي والمعتدي عليه، وما يثير الاشمئزاز أن تأتي هذه المبادرات من دول تنطحت دون غيرها في دعمها لما سمي زوراً (ثورات الربيع العربي) وشعاراتها البراقة، أو من دول عانت من مآسي وكوارث هذه المتغيرات أيضاً.

ففي الوقت الذي يتظاهر فيه عشرات الألوف في مدن العالم وعواصمه، بدءاَ من جوهانسبرغ في جنوب إفريقيا إلى واشنطن وغيرها من المدن والعواصم، يتظاهر المئات فقط في الشوارع العربية، ليشيروا إلى تبعات المتغيرات التي عصفت بالمنطقة وتداعياتها. وبدلاً من اتخاذ المواقف الرسمية العربية على تواضعها، ضد هذا العدوان ومحاسبة مرتكبيه وإدانتهم على أعمالهم القذرة والوحشية، يتداعى بعض العربان إلى تقديم المبادرات التي تساوي في مضمونها بين إسرائيل المحتلة والمعتدية، والشعب الصامد في قطاع غزة.

العالم العربي الذي انتظر من قادته وزعمائه التداعي إلى عقد قمة رسمية طارئة، أو جلسة لجامعته اللاعربية، يفاجأ بتداول مبادرات تنص على وقف الأعمال العدائية (لاحظ بين الطرفين) وعلى ضرورة إفراغ غزة من الوجود المسلح وغيرها من المقدمات اللامتوازنة، إن لم نقل غير المنطقية، بوصفها خطوة مشروطة لفتح المعابر، وفك الحصار عن شعب غزة.

وفي هذا السياق ينظر بأسف وحزن إلى المبادرة الرسمية المصرية، وإلى المبادرة القطرية غير المعلنة حتى تاريخه، اللتين تنصان على تهدئة رفضها الشارع الفلسطيني وقواه ومناضلوه في غزة وغيرها من المناطق الفلسطينية، وبخاصة المناطق المحتلة عام 1948 الذي أكدوا ضرورة وقف العدوان الهمجي أولاً وإدانة مرتكبيه ومحاسبتهم، بوصفها خطوة نحو مناقشة خطوات التهدئة، التي يجب أن تشمل العناصر التي أدت إلى قيام هذا العدوان، وفي مقدمتها الحصار اللإنساني واللاأخلاقي على قطاع غزة، المنافي لكل الأعراف والقوانين ولكل الاتفاقيات الدولية الناظمة للعلاقة بين المحتل والمحتلة أراضيه، وفي المقدمة منها اتفاقيات جنيف.

يواصل الفلسطينيون صمودهم لليوم السادس عشر على التوالي، ويؤكدون بهذا الصمود إصرارهم وعزمهم على رفض التهدئة وفق الشروط الإسرائيلية، والشروط (الدولية) اللامتوازنة، كذلك المبادرات العربية المنحازة وغير الأخلاقية. ويواصل الفلسطينيون في قطاع غزة تحديهم للعدوان، ومعهم أشقاؤهم في المناطق الفلسطينية المحتلة، في ظل (تضامن) شعبي عربي غير مسبوق في حجمه وتجلياته في صفوف الشارع وحركته الوطنية، ليؤكدوا أن هذه المتغيرات السلبية التي عصفت بالمنطقة، خلال السنوات الأربع الماضية على كارثيتها وتبعاتها، لن تثنيهم عن نضالهم وعن المطالبة بحقوقهم الوطنية الثابتة، وعنوانها الرئيس حق العيش بكرامة واستقلال، مثلهم مثل بقية شعوب العالم قاطبة.

فالفرق واضح لكل ذي بصيرة بين العدوان والدفاع عن الذات، وعن الكرامة وحق العيش، وبين استخدام الآلية العسكرية الإسرائيلية، والصواريخ الميدانية المتواضعة في قدرتها، ولكنها الأقسى حينما تمتلكها الإرادة بالنصر. إذ لا خيار أمام الفلسطينيين اليوم إلا التصدي ومواصلة النضال بأشكاله المختلفة المشروعة، التي أقرتها جميع الاتفاقيات والمواثيق الدولية للشعوب المحتلة أراضيها في مواجهة العدوان والاحتلال والغطرسة وتجاهل الأعراف الدولية، وهذا ما يمارسه الفلسطينيون في قطاع غزة الصامد، ومعهم أشقاؤهم وأحبتهم في فلسطين المحتلة، رغم ظروفهم القاهرة، وإخوتهم في المناطق العربية على قلتها وتواضعها. وهم يدركون أن الفارق الجوهري بين العدوان القائم، والاعتداءات الهمجية السابقة، عنوانه التوحد الفلسطيني في مواجهته، والإصرار على رفض أية مبادرات عربية أو غيرها لا تضمن لهم حقهم في فك الحصار عن شعبهم وفي نيل الحرية والاستقلال بوصفه حقاً مشروعاً وأساساً لأي نقاش أو (مبادرات).

وهذا ما يجب أن تدركه قبل غيرها حكومة نتنياهو، التي قامت بهذا العدوان البربري، والتي يجب عليها قبل غيرها استخلاص العبر من صمود قطاع غزة وتداعياته على إسرائيل أولاً، وهذا ما يجب على (العربان) أيضاً إدراكه، وقد تداعوا سريعاً إلى عقد جلسات طارئة للجامعة اللاعربية لمناقشة هزيلة لموضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما يتباطؤون في الدعوة إلى مواجهة عدوان بحق شعب ينادي بالحرية والاستقلال كغيره من شعوب العالم.

وهذا أيضاً ما يوجب على الدول التي رفعت لافتات التغيير الخارجي الإرادوي والديمقراطية غيرها، أن تتوازن في اقتراحاتها وفي مشاريع القرارات التي تقدمها إلى مجلس الأمن الدولي، وأن لا تختزل المعادلة القائمة إسرائيلياً وعربانياً و(دولياً) في هدنة مشروطة بين المعتدي والمعتدى عليه، أو بين إسرائيل الغاصبة وجناح أو تيار فلسطيني بعينه.. فالقضية أصبحت أكثر من جلية، وتتلخص في عدوان بربري على شعب بأسره، وأن قواه الوطنية الحية قادرة على الإمساك بناصية الحل المتلخص في وقف العدوان وإدانة مرتكبيه ومحاسبتهم، بوصفه خطوة نحو حل يقود إلى إنهاء الاحتلال لا أكثر ولا أقل.

العدد 1107 - 22/5/2024