صفحة الفيسبوك.. لوح اعتراف شخصي

تنتقل وسائل التواصل الاجتماعي من العالم الافتراضي الثانوي (الرقمي – الإنساني) الى إحدى الضروريات الحياتية للمثقفين، فقد أصبحت إحدى الوسائل الأكثر شعبية للنشر، ليس فقط للتّواصل الإنساني التقليدي، واكتساب المعارف والأصدقاء أو إعادة وصل فيما بين أفراد العائلات البعيدين في الشتات وفي المهجر، لا بل أصبح الوسيلة الأكثر شعبية وعملانية التي يستخدمها السياسيون والفنانون والمبدعون في كل المجالات للتّواصل مع قاعدتهم الجماهيرية، فبكل ما تتيحه الشبكة من وسائل للتفاعل مع المادة المنشورة من خيارات لها علاقة بالإعجاب أو التعليق أو المشاركة لأي صورة او مقال أو تعليق او إعلان تعبر بشكل مباشر أو غير مباشر عن التوجهات الفكرية للشخص المستخدم للشبكة، إضافة إلى ميزة المحادثة مع الشخص أو مع (الأدمن) في حال الصفحات غير الشخصية التي تعنى بأحد المواضيع الثقافية أو العلمية أو التسويقية، فقد يسرت شبكات التواصل (فيسبوك وتويتر وغيرها..) فرصاً غير محدودة للتفاعل بين عدد كبير من الكتاب والسينمائيين والفنانين التشكيلين والنقاد، طبعاً الذين ليس لديهم مانع من التواصل عبر الإنترنت، والذين يقدرون أهمية شبكات التواصل الاجتماعي في التواصل مع الجمهور، وخاصة مع الأجيال الشابة التي تقضي معظم وقتها أمام أجهزة الحاسوب وأجهزة الخلوي الحديثة التي توفر خدمات الإنترنت المتنوعة، فقد أصبحنا نحن المتابعين نتابع حركتهم الإبداعية أولاً بأول وأصبح بالإمكان إبداء الرأي بعملهم بشكل مباشر دون وسيط، وأصبحنا نرافق المبدع في قسم كبير من حياته ورحلاته ونشاطه الإبداعي، وأحياناً صرنا مطلعين على مراحل خلق العمل الفني منذما قبل العرض حتى ساعة إعلان ولادته للوجود. تغيرت بفضل شبكة التواصل الاجتماعي قواعد اللعبة مما أثر على الكثير من الأمور، فمثلاً كنا نسمع أو نقرأ عن الأعمال الفنية وعن الكتب الممنوعة من دخول البلاد من خلال مقالات بعض الكتاب الصحفيين أو بعض المحطات الفضائية، ويمر الموضوع مرور الكرام، دون تراكم أو توثيق. اليوم أصبح كل مبدع تقريباً يعي تماماً أن عليه أن يقوم هو شخصياً بجمع عمله وعرضه على جمهوره، وذلك من خلال إما صفحته الخاصة على الفيسبوك أو تويتر أو من خلال صفحات يتعهد أحد (الأدمن) بإدارتها، مايعني أن كل سياسات المنع الحكومية القديمة ذهبت أدراج الريح، لأن معظم الصحف ودور النشر المرموقة وحتى غير المعروفة كثيراً أصبح لها مواقع على (محرك البحث) إضافة إلى صفحات على شبكات التواصل، وأصبحت تتواصل مع جمهورها مباشرة، وبفضل التقنيات والخيارات أصبح يعرف بسهولة عدد القراءات والتعليقات على كل مقال أو رأي، وبالتالي تطور كثيراً رصد الرأي العام وربما مراقبة ميل المزاج العام للجمهور، حتى أننا أصبحنا نتابع رؤساء تحرير أعرق الصحف بزواياهم اليومية على صفحاتهم الإلكترونية، ومعدّي البرامج التلفزيونية المشهورين جماهيرياً، أصبحنا نطلع على كواليس إعداد برامجهم الحوارية خاصة أن عدداً لا بأس به منهم يطلب رأي الجمهور في مواضيع حلقاتهم القادمة، وبعض الصفحات أتاحت ميزة التحميل لحلقات تلفزيونية بأكملها، فأصبحنا نشاهد أهم مثقفي عصرنا وفنانيه ومفكريه بكل يسر، من كنا نحلم في يوم من الأيام أن نشاهدهم ونسمعهم يتحدثون اليوم معظم هذه الأمور متاحة، والأجمل من ذلك هو أن بعض الفنانين يتعاملون مع صفحتهم (على الفيسبوك مثلاً) على أنها لوح اعتراف. لقد لفت انتباهي تجربة أحد الفنانين السوريين المقيمين في الخارج، وهي تجربة مؤثرة جداً، إذ يتواصل هذا الفنان مع عائلته التي بقيت داخل سورية ومع أقاربه وأصدقائه ومع جمهوره عن طريق صفحته على الفيسبوك تواصلاً آنياً، فهو يدرج تفاصيل حياته الشخصية في المدينة البعيدة عن طريق عرض صور يومية وربما ساعية وربما لحظية في كل دقيقة، يتحدث فيها عن مشاعره وعن حزنه وعن شوقه لزوجته وأبنائه وأفراد مدينته، متحدثاً عن غربته وعن المدينة العربية التي يسكن بها ويعاني فيها، هو المغترب عن الوطن ليجني رزق عائلته بعيداً عن الدمار الذي حل بوطنه الأم الذي لم يعد يحفل للفن وللثقافة الإنسانية العريقة، فالثقافة الغالبة في هذا الوطن اليوم هي ثقافة الموت، وهو يقاوم الموت والنزوح والألم اليومي والفقر واليأس بالإبداع مستلهماً تفاصيل تراث مدينته الفراتية ومجدداً ومكرساً حياته للفن وللتعريف بالفن والفنانين التشكيليين السوريين بإنشاء صفحات متعددة على شبكة التواصل الاجتماعي الفيسبوك تتحدث وتعرض أعمال بعض الفنانين من الجيل القديم الذي أسس للحركة التشكيلية خاصة في مدينته الميادين، ومُعرّفاً بتفاصيل بيئته الفراتية الجميلة، وهو ابن نهر الفرات وبيئته وجمالياته، الإنسان الفراتي والفنان والناقد التشكيلي أبو الفرات عبود سليمان، الذي يحول كل ما حوله إلى قطع فنية، من الأقمشة إلى الأباريق القديمة إلى الأطباق إضافة إلى اللوحات الفنية الجميلة المقتناة في العديد من دور العرض والمتاحف، الفنان الذي جعل صفحته على الفيسبوك لوح اعتراف شخصي، فجعلنا نشاركه ألمه العميق على وطنه وفرحه بالهدايا الجميلة التي ترسلها زوجته الحبيبة من الميادين، وفرحه العظيم بنجاح ابنه في الشهادة الإعدادية، فرح الأب المؤلم الذي لن يتمكن من ضمّ ابنه وتقبيله، بسبب الاغتراب، والذي يعبر عن حبه وألمه بالصور والكلمات، عبود سليمان مثال على تغريبة الإنسان السوري المعاصر.. تحية له ولروحه الجميلة!

العدد 1105 - 01/5/2024