قراءة في نتائج الانتخابات التركية وتداعياتها

أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة أن نسبةً لا يُستهانُ بها من الناخبين الأتراك مستَعِدّة لتمجيد من يدّعي زوراً وبُهتاناً رفع شِعار الإسلام، ويعمل لتحقيق حلم العودة للدولة العلية، وإنّ كان حُكمه يُخالف أبسط مبادئ حقوق الإنسان ولا تتماشى مع المعلوم من قواعد الفقه وأصول الدين بالضرورة، فقط، خوفاً من عودة العلمانيين إلى الحكم في أنقرة.

هؤلاء الناخبون نسوا أن المرحلة العثمانية التي يطمح إسلاميو تركيا المعروفين باسم (العثمانيين الجدد) إلى استعادتها كانت المرحلة التي بلغ فيها الجهل والتخلف، في عموم منطقة الشرق الأوسط، درجة عصور الظلام، ودخلنا على إثرها مرحلة السبات الفكري والثقافي التي لا نزال نعاني نتائجها الكارثية حتى الآن. وفي الوقت نفسه، كان السلاطين العثمانيون يتوارثون حكم البلاد والعباد، كابراً عن كابر، ويتمتعون بخيرات هذه الأرض الطيبة وأرزاقها دون أن يهتمّوا بآلام سكانها وآمالهم وأحزانهم وأتراحهم. فكان مصير هؤلاء المسحوقين مرتبطاً بشهوات سلطان ونزواته، سلطان لم يروه ولم يختاروه، يُصدر الأوامر السلطانية والرغبات الأميرية، وعلى الجميع السمع والطاعة والتنفيذ، وإلا نالهم منه الويل والثبور وعظائم الأمور. لهذا عندما قام مصطفى كمال بإلغاء الخلافة العثمانية في 3 آذار 1924م، قال: لسنا عبيداً لأحد.

ومن أجل ذلك، نظر أتاتورك إلى أوربا على أنها النموذج شكلاً ومضموناً. وكان بذلك أول زعيم تركي يحاول أن يتبنى (الحضارة الأوربية) نهجاً رسمياً للدولة. وظن أن باستطاعته أن يُدخل تركيا إلى عصر التنوير الخاص بها معتمداً على العلمنة الشديدة والقومية. مقرراً أن العلمنة هي استئصال الدين من المجتمع، والقومية هي إنكار وجود باقي المجموعات القومية التي تعيش في تركيا، ما أدى إلى أزمات خطيرة في بنية المجتمع التركي وحدوث رد فعل عكسي لدى قطاعات واسعة من سكان تركيا نتيجة هذه السياسات.

هذه النتائج جعلت حزب الشعب الجمهوري العلماني – اليساري، وحزب الحركة القومية، الفاشي المتشدد، يرشحان الأمين السابق لمنظمة التعاون الإسلامي إكمال الدين إحسان أوغلو ليكون ممثلهما في السباق إلى الرئاسة التركية، ليشكل ذلك علامة فارقة في التاريخ التركي المعاصر. هذا الترشيح، إن دلّ على شيء، فإنما يدل على أن الحزبين العلمانيين، استسلما أمام واقع مفاده أن تركيا لن تنتخب شخصية لا تمتلك ثقافة إسلامية، بعد أن أدت السياسات المُتّبعة منذ تأسيس تركيا الحديثة حتى هذه اللحظة إلى أزمة حقيقية في الشخصية التركية، وبالتالي فإن هذه الخطوة فيها إقرار من الطرفين بعدم قدرتهما على الوصول إلى السلطة، فاختارا معاً أن يمتنعا عن الوصول إليها، وأن يحاولا عرقلة وصول رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عن طريق ترشيح شخص يلقى تقديراً خاصاً في الأوساط الإسلامية، المحلية والدولية، وفي الوقت نفسه هو شخصية غير صدامية مع المجتمع التركي بأطيافه كافة.

وفي المقابل، استغل (العثمانيون الجدد) حاجة الغرب والولايات المتحدة إلى حليف إسلامي يُعتمد عليه، واستغلوا جيداً الأوضاع التي آلت إليها المنطقة بعد هبوب عواصف (الربيع العربي)، ليوجّهوا رسالة هي في غاية الذكاء والدناءة في الوقت نفسه، إلى الخارج الأجنبي والداخل التركي، مفادُها: أنا إسلامي معتدل ووسطي، لكن إن لم تقبلوا بشروطي ستحصلون على إسلامي من طراز القاعدة أو النصرة أو حتى داعش، إضافة إلى هدية مجانية وهي (آكل قلوب البشر وأكبادهم).

أما الأكراد، فقد أرادوا إثباتاً للوجود بترشيحهم صلاح الدين ديميرطاش، الذي تحول رقماً صعباً في الحياة السياسية التركية من الصعب تجاهله بعد الآن، وخصوصاً بعد أن نال نحو 10% من أصوات الناخبين الأتراك، ما يعني أنه سيكون للأقليات القومية والدينية في تركيا الجديدة الدور المؤثر والصوت المسموع، مهما حاول القوميون والجمهوريون والإسلاميون أن يتجاهلوهم.

 

السيرة الذاتية للمرشحين..

إكمال الدين إحسان أوغلو

ولد إكمال الدين إحسان أوغلو في عام 1943 في القاهرة من أب تركي هاجر إلى مصر إبان حكم أتاتورك، نشأ في حي الحلمية الجديدة في وسط القاهرة، وتابع دراسته في جامعة عين شمس التي درس فيها الفيزياء، وتخرج فيها عام 1968.

عاد إكمال أوغلو إلى تركيا في عام 1977 بعد وفاة والده، والتحق بجامعة اسطنبول، وحاز على الماجستير، ثمّ أوفدته الجامعة إلى إنكلترا حيث نال الدكتوراه في تدريس الكيمياء.

عيّن في عام 1982 مديراً لمركز أبحاث التاريخ والفن الذي أسّسته (منظمة المؤتمر الإسلامي) في إسطنبول في عام 1980.

انتُخب أوغلو أميناً عاماً لـ(منظمة المؤتمر الإسلامي) في عام 2004 خلفاً لعبد الواحد بلقزيز.

وساهم منذ توليه منصبه مع قادة ومفكرين وخبراء بوضع تصميم جديد لإصلاح مسيرة (منظمة المؤتمر الإسلامي) التي تأسست في عام ،1969 وعقدت أول قمة لها في الرباط في أعقاب إحراق المسجد الأقصى في 21 آب 1969 على يد جماعة متطرفة صهيونية.

يعرف عنه أيضاً، اهتمامه بالخطوط العربية الإسلامية والعادات والتقاليد العثمانية.

 

رجب طيب أردوغان

ولد رجب طيب أردوغان في إسطنبول في 26 شباط 1954 وترعرع في عائلة فقيرة في حي قاسم باشا.

انضم في بداية نشاطه السياسي في عام 1969 إلى (حزب السلامة الوطني) الذي كان يتزعمه نجم الدين أربكان. وفي عام 1975 انتخب مسؤولاً عن الحركة الشبابية لحزب (السلامة الوطني).

في عام 1992 رشحه أربكان لمنصب رئاسة بلدية إسطنبول وفاز بسهولة. وفي نهاية عام 1999 حُكم بالسجن لمدة عام ومُنع من المشاركة في الانتخابات ودخول البرلمان. أمضى في السجن أربعة أشهر، وبعد خروجه قرر مع عدد من أصدقائه الانفصال عن (حزب الفضيلة) الذي كان يسيطر عليه أربكان، والذي حظرته المحكمة الدستورية سنة 1999.

رُفع الحظر عنه، بعد صدور قانون العفو الذي أصدرته الحكومة في نهاية عام 2000 وعاد لممارسة نشاطه السياسي، وأعلن تأسيس (حزب العدالة والتنمية)، وترأسه في 14 آب عام 2001.

انتخب نائباً عن منطقة (سعرت) في عام ،2003 ما مهد السبيل أمامه نحو رئاسة الحكومة، التي تولاها في 14 آذار من العام نفسه، بعد استقالة عبد الله غول، الرئيس الحالي.

 

صلاح الدين ديميرطاش

صلاح الدين ديميرطاش، حقوقي ونائب تركي من أصل كردي، من مواليد ديار بكر عام 1973. تلقى علومه في جامعة أنقرة ونال إجازة في الحقوق، وعمل محامياً حراً لفترة قبل أن يتوجه إلى السياسة.

تميز ديميرطاش في مجال الجرائم المسجلة ضد مجهول، كما أنه كان أول المؤسسين لشعبة (منظمة العفو الدولية) في مدينته ديار بكر، إضافة إلى عضويته في (جمعية حقوق الإنسان).

في عام ،2007 ترشح في الانتخابات البرلمانية عن (حزب المجتمع الديموقراطي الكردي)، وفاز نائباً عن مدينة ديار بكر وهو في الرابعة والثلاثين من عمره.

بعد ثلاثة أعوام، أصبح ديميرطاش رئيس (حزب السلام والديموقراطية) بالمشاركة، وهو النسخة الجديدة لـ(حزب المجتمع الديموقراطي الكردي) بعد قرار المحكمة الدستورية في تركيا حظر الحزب، في أواخر عام 2009.

في الانتخابات البرلمانية في عام ،2011 فاز بمقعد عن (حزب السلام والديموقراطية)، في مدينة هكاري الكردية.

وفي حزيران الماضي، انتخب رئيساً بالمشاركة لـ(حزب الشعوب الديموقراطية) الكردي، الذي يدخل ضمن مشروع أوجلان لجعل الحركة الكردية تنادي بحقوق كل المكونات في تركيا.

فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية سيدخل تركيا مرحلة جديدة في تاريخها. ذلك أن مفهوم (الصندوقراطية) الصارخ الذي تبناه أردوغان (الحصول على نصف الأصوات بحشد جماهيري على خلفية صراع الهويات)، واعتبار ذلك تفويضاً لتقويض التوازنات القائمة في البلاد وإلغاء نصف المجتمع الآخر سياسياً، سيؤدي لأن تصبح الشمولية عنواناً رئيسياً للنظام السياسي في أنقرة.

ومع موت الصراع الطبيعي بين اليمين واليسار بسبب موت اليمين التقليدي، تبدأ العملية السياسية التركية بالانحدار، مع تسلّم أردوغان لمفاتيح قصر شنقايا في أنقرة (مقر رئيس الجمهورية). وبذلك يكون زمن التمدد الإقليمي لتركيا في دول الجوار قد انتهى، وبدأ زمن أزمات الهوية داخل تركيا، ذلك المارد الذي أطلقه أردوغان من قمقمه أخيراً، والذي قد يُطيح بتركيا التي نعرفها.

ويبقى أردوغان متحكماً في كتابة نهاية رواية (تركيا الجديدة)، وهو أمام مرحلة حاسمة لمراجعة جدّية مع (مشغّليه) في الداخل والخارج، لرسم معالم هذه النهاية. فإما أن يكون السيناريو كوميدياً يعيدنا إلى بدايات هذه القصة التي بدأت بداية لطيفة أحبها الجمهور في الشرق الأوسط لتصبح فيما بعد كابوساً مزعجاً أقض مضاجعهم، أو بإمكانه اختيار سيناريو تراجيدي حزين، لا ينتهي بانتصار البطل، كما في الأفلام الهوليودية والمسلسلات التركية، رغم ما يحيق به من أهوال ومآس، وإنما قد تنتهي على طريقة الظاهرة الداودية في الولايات المتحدة الأمريكية حين أقنع زعيم تلك الطائفة أنصاره بأن الخلاص لا يكون إلا بالانتحار الجماعي، وهي نهاية قد ينتهي إليها أردوغان وأتباعه من (العثمانيين الجدد) إن استمروا بممارسة هذه الألعاب السياسية، بعد أن لعبوا لفترة طويلة على حافة الهاوية حتى باتوا قاب قوسين أو أدنى من الوقوع فيها.

العدد 1104 - 24/4/2024