أيام الشرق الأوسط القادمة

طرحت تحركات واشنطن الأخيرة، وسعيها لإنشاء تحالف دولي بهدف محاربة (داعش) الكثير من التساؤلات.. لماذا الآن؟ وما هو الهدف النهائي لهذا التحالف؟

فمن المعلوم أن القوى الكبرى في العالم لا تأخذ دوراً مباشراً في أي أزمة محلية أو إقليمية إلا للأسباب التالية:

– تحقيق مصلحة مباشرة.

– مساعدة تيار ينفذ مصالحها في هذه المنطقة ومنع هزيمته.

– اكتساب هيبة سياسية.

– تجنّب أي موقف مفاجئ، قد يرتد عليها، ويفرض عليها تحركات معينة لا تريدها.

فمنذ بداية (الربيع العربي) وتفجّر أحداث العنف الطائفي والمذهبي في منطقة الشرق الأوسط، التي ترافقت مع ظهور التيارات المتطرفة التي ارتكبت مجازر وعمليات تطهير بحق الأبرياء والآمنين من سكان هذه المنطقة، لا نرى سوى اهتمام وسائل الإعلام الغربية بهذه الانتهاكات وإبرازها والتركيز عليها، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن المصلحة من هذا التصرف، وهل هو عمل استخباراتي من ألفه إلى يائه، تأسيساً لهذه التيارات وتدريبها وتسليحها وتقديم كل وسائل الدعم لها، وهل هذا العمل يهدف إلى تعميق الهوة والكراهية بين أبناء هذه المنطقة بسبب طبيعة العنف المُرتكب الذي قد يترك أثره على التعايش؟

خلال هذه المُدّة، كانت مطابخ صنع القرار في البيت الأبيض تُحضّر (طبخة بحص) للمنطقة، فالحركة المكوكية للمسؤولين الأمريكيين تتوالى، والتصريحات النارية لهم تُضيف بعض التوابل لإعطاء الرائحة الشهية وإثارة شهية البعض من أتباعها في المنطقة، بينما الوجبة المنتظرة كانت الحجارة.

إعدام الصحفيين الأمريكيين بهذه الطريقة الوحشية البربرية، بهدف إرهاب الأمريكيين والمس باعتقادهم بأنهم أعتى قوة على الأرض والقوة التي لا تقهر، والتهديدات من ارتداد موجة العنف الإرهابي في الشرق الأوسط إلى الغرب، غيّر قواعد لعبة الأمم في المنطقة، لكن لم يُلغِ الهدف النهائي لما يُخطط لها، والذي يتمثّل بتعميق الهوّة بين شعوب المنطقة، باللعب على الاختلافات المذهبية والدينية والقومية، بهدف تفتيتها إلى كانتونات صغيرة يسهل التحكّم بها.

هذا الأمر نراه جلياً في طبيعة تحالف الأربعين الذي أعلن عنه في الرياض بهدف محاربة تنظيم (داعش) والقضاء عليه. فهو مع تعديلات طفيفة التحالف نفسه، الذي خطط لـ(الربيع العربي) ويعاني الآن من ارتداداته، والذي دخلت بعض أطرافه الإقليمية والدولية في معركة إلغاء بعضها ضد البعض الآخر، على أمل قطف ثماره والتمتع بها. الأمر الذي بدا واضحاً في المواقف التي اتخذتها بعض هذه الدول، فقد امتنع البعض عن الاشتراك في المجهود الحربي واكتفى بالدعم اللوجستي (تركيا ومصر)، وامتنع البعض الآخر عن القصف في مناطق معينة (سورية بالنسبة لألمانيا)، واقترحت بريطانيا ضم سورية إلى التحالف حتى يتحقق هدفه في القضاء على خطر المنظمات الإرهابية ومن ضمنها (داعش)، بينما نرى باريس لا تزال تبحث عن ثأرها من دمشق بالعقلية البدوية. وكان القاسم المشترك بينهم جميعاً الخوف من الاستراتيجية التي وضعتها واشنطن لهذه الحرب، التي تنذر بخروجهم خالي الوفاض من المنطقة، أو إدخالهم في أتون صراعات قادمة، هم غير قادرين على خوض غمارها.

ومشيخات الخليج، التي تُمثل الفكر الرجعي في المنطقة، لا تزال تفكر بعقلية حرب البسوس وبمنطق ابنة كليب (أريد أبي حّياً)، الذي لا يُمانع بتدمير المنطقة حتى يُحقق ثأره ويُنفّذ مشروعه الذي يتمثل بتدمير المشروع النووي الإيراني، وكسر الهلال الشيعي. بينما تركيا تريد قبض الثمن مقدماً وهو القضاء على النظام السوري وإيصال دُماها للحكم في دمشق حتى تنفذ مخططاتها في إعادة إحياء الدولة العثمانية وتحقق حلمها بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي بشروطها، لكنها تتخوف من ارتدادات الحرب عليها، خصوصاً بعد تسريبات إعلامية عن وجود أسلحة وذخائر تركية الصنع بيد تنظيم (داعش). أما مصر العائدة بقوة إلى المسرح الإقليمي، فهي تتخوف من مخطط تفتيت المنطقة والذي يلحظ تقسيمها إلى دويلات طائفية وعرقية.

خطاب واشنطن حول مخطط ضرب الإرهاب في العراق وسورية يحمل في طياته الكثير من التساؤلات حول سير العمليات القتالية، وسبب قرارها دعم مجموعات طائفية وقومية معينة، وتصنفيها لمجموعات مسلّحة في سورية على أنها معتدلة، بينما هي متهمة بارتكاب جرائم حرب حسب قواعد القانون الدولي. وما هو مصير هذه المجموعات المسلحة (التي لها صبغة طائفية) وأين ستُستخدم بعد ذلك؟ وهل هذا السبب مرتبط بإبعاد روسيا وإيران عن هذا التحالف، وقرار واشنطن عدم التعاون مع دمشق؟

تظُّن الرجعية العربية أن نتائج الحرب على الإرهاب ستأتي لمصلحتها، وأنها بواسطة الأمريكيين ستصفي حساباتها القديمة مع الدول التي تعاديها، وموقعها في النظام العالمي الجديد سيتحدد وهي تسير وراء موكب النصر الأمريكي وأغاني النصر تصدح في أجواء واشنطن.. لكن الذي فاتها أن لمسة واشنطن هذه هي اللمسة النهائية في مشروع (الفوضى الخلاقة)، وأن دول العالم ستسير وراء الفرقة الموسيقية وهي تعزف لحناً جنائزياً لها وللشرق الأوسط القديم!

لكن للشعوب كلمة أخرى.. هكذا سارت الأمور في الماضي، وهكذا ستسير اليوم.

ويبقى التساؤل عما يُحضّره القيصر الروسي وصانع السجاد الإيراني مع مجموعة دول البريكس لعرقلة هذا المشروع، فهذه المجموعة قد صرحت مراراً وتكراراً أن قواعد النظام العالمي الجديد ستتأسّس في دمشق التي ستدور على أرضها المعركة الأخيرة ضد الإرهاب العالمي.

العدد 1105 - 01/5/2024