الهدف المعلن «داعش».. والحقيقي سورية!

تتلخص استراتيجية أوباما المعلنة لمحاربة تنظيم (داعش) في شن غارات جوية أمريكية على مواقعه في سورية والعراق. ولما غدت دولة أوباما عاجزة عن إرسال قوات برية إلى المنطقة من جديد، فقد أحيلت المهمة إلى تحالف من بعض دول المنطقة، التي اجتمعت على الفور في جدة – السعودية برئاسة وزير الخارجية الأمريكية؛ وأعلنت تشكيل التحالف المطلوب.

 لكن أكثر ما يسترعي الانتباه في هذه الاستراتيجية وهذا التحالف هو أولاً – إعلان السعودية عن استعدادها لتدريب المعارضة السورية (لاحظ السورية)على أراضيها، يقابل ذلك استعداد واشنطن، كما جاء في استراتيجية أوباما نفسها، مضاعفة المساعدات والتسليح لهذه المعارضة السورية، رغم إعلان أوباما شخصياً، قبل فترة بأن هذه المعارضة التي يسمونها معتدلة! هي نوع من (الفانتازيا)؛ وثانياً – تشكيلة التحالف لمحاربة (داعش): فبينما تعمّدت واشنطن استبعاد دول ذات وزن في المنطقة وقريبة منها، من هذا التحالف، كإيران وروسيا، وقبل ذلك سورية التي تصارع الإرهاب الوافد من الخارج إلى أراضيها، على اختلاف مسمياته، منذ قرابة أربع سنوات، وعبّرت عن استعدادها الكامل للمشاركة إقليمياً ودولياً في محاربته؛ فإن بعض الدول التي تمّ اختيارها لعضوية هذا التحالف ساهمت وما تزال تساهم بفعالية في خلق وتمويل هذا الإرهاب، وبضمن ذلك تنظيم (داعش) نفسه.

يرى معهد (كارنيغي) الأمريكي للدراسات الإستراتيجية والدولية أن (السعودية لا تزال قلقة مما قد يحدث إذا تمّ القضاء على التنظيم « أي داعش»..). وأعرب المعهد عن اعتقاده بأن (السعودية لن تدعم عملية متعددة الجنسيات ضد الدولة الإسلامية)، كما ينادي أوباما ووزير خارجيته نظراً لقلقها من المشروع (إلا إذا استطاعت أن تضمن لنفسها دوراً في سورية والعراق بعد هزيمة التنظيم). أي أن هذا التنظيم هو أداة السعودية (لضمان دور لها في العراق وسورية). ولا يرى حكام السعودية أي تناقض ولا حتى أخلاقي بين احتضان (داعش) وتمويلها وبين محاربة أي اقتراب لهذا التنظيم أو سواه من أراضيها؛ ثالثاً، لماذا (داعش) دون سواها؟ وهذا ما أثاره الرئيس المصري أمام وزير الخارجية الأمريكي – كيري؟

عدا ذلك، فقد تعمّد أوباما التأكيد على أن الغارات الجوية الأمريكية على مواقع (داعش) في سورية كما في العراق، ستتم دون أي تنسيق، مباشر أو غير مباشر مع الدولة السورية، وطبعاً، دون قرار من مجلس الأمن الدولي؛ وهذا ما حذرت منه روسيا وإيران، عدا سورية، باعتباره عدواناً سافراً على دولة ذات سيادة، وخرقاً خطيراً للقانون الدولي.

وبينما هوّل أوباما بشكل لافت للنظر، قوة (داعش) وانتشارها، إلى حد تصويرها خطراً قد يصل إلى الأراضي الأمريكية، وأن الصراع معها سيمتد سنين طوالاً! مع أن القضاء عليها وبأسرع وقت يعتمد في الأساس على تجفيف مصادر دعمها وإغلاق طرق وصول عناصرها إلى الأراضي السورية والعراقية؛ في الوقت ذاته، تجاهل أوباما عامداً كيف تولّى الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، إقامة هذه الفزاعة الإرهابية التي يهوّلون اليوم، بشكل مفاجئ قدراتها؛ كما تجاهل عامدا كيف تقاطرت عناصرها من كل حدب وصوب، وبضمن ذلك من بلدان هذا الغرب، باطلاع ومعرفة المسؤولين فيها، عابرين إلى الأراضي السورية من حدود تركيا، عضو حلف الناتو، والضالعة في التآمر على سورية منذ البدء. ومعلوم أنه سبق تمدد (داعش) المفاجئ في الأراضي العراقية تزويدها بكميات هائلة من السلاح العصري، بالانسحاب المفاجئ لعدد من فرق الجيش العراقي من لواء الموصل، تاركين وراءهم سلاحهم لهذه العصابة. كانت هذه عملية استلام وتسليم مكشوفة. وإذا كان إعلان (الحرب) على (داعش)، هو غطاء للمحاولة مجدداً الاعتداء على سورية ومواصلة الجهد لتقسيم العراق على أسس طائفية، فقد يكون في الوقت ذاته عملية (تأديب) لهذه المنظمة الإرهابية، لخروجها على خط سيرها المقرر، حين توجهت إلى المناطق الكردية، التي تعتبرها واشنطن قاعدة أساسية لها في المنطقة منذ عام ،1991 ومنها ستنطلق بعض الطائرات الأمريكية لتنفيذ الغارات الموعودة.

وإذا كانت واشنطن تستهدف حالياً تحجيم (داعش) كما أوحى أوباما في استراتيجيته المعلنة، وليس تصفيتها، إذ ربما تحتاج إلى خدماتها في ظرف ومكان آخر.. فإن أهداف واشنطن أبعد كثيراً من أهداف تحالف جدة. وإذا كان إخضاع سورية، التي استعصت حتى الآن، هو هدف استراتيجي لأتباع واشنطن في المنطقة، وبخاصة السعودية وقطر وتركيا، لكنه، على أهميته لواشنطن ليس إلاّ معبراً لهدف ذي طابع عالمي.

إن إخضاع روسيا واحتواءها، ومن بعدها عزل الصين وترويضها، هي الأهداف الكونية البعيدة المدى لاستراتيجية الإدارة الأمريكية، وذلك في محاولة يائسة لاستعادة التفرد الأمريكي في السيطرة على العالم الذي تزعزع إلى حد كبير، ليفسح المجال لعالم متعدد الأقطاب. وإخضاع سورية سيسهّل عزل إيران واحتواءها، وفي الوقت ذاته يفتح المجال لتهديد روسيا والضغط عليها من خاصرتها الجنوبية ؛ وهذا ما يفسّر الدعم الروسي الثابت للدولة السورية. وفي ضوء المحاولات الفاشلة، في الجولة الماضية، لأخذ سورية، وبضمن ذلك إجهاض النوايا الأمريكية لمهاجمتها من الجو، بزعم استعمالها لأسلحة كيماوية، تحوّلت واشنطن إلى منازلة روسيا والضغط عليها عبر خاصرتها الغربية – أوكريينا. لكن النتائج، حتى الآن، تمثل مكسباً استراتيجياً لروسيا على الأرض بمقدار الفشل لواشنطن.

لكن العودة، تحت غطاء محاربة (داعش)، لمحاولة ضرب سورية، وفي الوقت ذاته، محاولة إرباك روسيا وتشيتها بين جبهتين، تحمل معها أكثر من مؤشر على الفشل المحقق هذه المرة أيضاً، للأسباب التالية:

1- أن الدولة السورية أقوى من أي يوم مضى، منذ اندلاع الأزمة فيها وصراعها مع عصابات الإرهاب.

2- أن دول تحالف جدة الأخير ليست في وضع يتيح لأيِّ منها أن ترسل جندياً واحداً لـ(مقاتلة داعش) على الأراضي السورية أو العراقية.

3- إن الإعلان الرسمي عن تشكيل تحالف جدة لم يصفِّ المحاور وأسبابها داخل مكوّنات هذا التحالف، بدليل رفض تركيا التوقيع على البيان الصادر عن هذا التحالف، لأن تشكيله جاء لصالح محور السعودية – مصر على حساب محور تركيا – قطر، التي أعلنت فور انتهاء لقاء جدة عن إبعاد عدد من قادة حركة الإخوان المسلمين عن أراضيها رضوخاً للضغوط.

4- المعارضة الدولية، شبه الشاملة، لمغامرة أوباما الجديدة، حسبما صدر عن لقاء شنغهاي الذي ضم دولاً ذات وزن عالمي كبير، وفي الوقت ذاته، امتناع الدول الغربية، وبضمنها دول أساسية عن المشاركة في هذه المغامرة المحكومة بالفشل، كألمانيا وبريطانيا الأشد قرباً من واشنطن، وإحجام حتى فرنسا عن المشاركة في الإغارة على قواعد (داعش) داخل الأراضي السورية. ولعل الإعلان عن ذبح (داعش) بشكل استعراضي للمواطن البريطاني إنما جاء لاستفزاز الجمهور البريطاني، ودفعه للانجرار وراء مغامرة واشنطن المتهورة، فهل ترتدع واشنطن أمام هذه الوقائع الصلدة أم تركب رأسها وتدفع المنطقة إلى تأزيم إضافي، غير محسوب العواقب؟

العدد 1107 - 22/5/2024