تحفظ تركي على محاربة الإرهاب

يؤكد التحفظ التركي على المشاركة في حملة أوباما (الدولية) الهادفة إلى محاربة (الدولة الإسلامية) في العراق، وأماكن وجودها الأخرى، حقيقة موقف حكومة أردوغان من أحداث المنطقة، وكيفية تعاطيها مع تفاعلاتها. ويظهر في الوقت نفسه مدى انخراط تركيا – أردوغان في الأحداث التي تشهدها المنطقة منذ بدء ما سمي (ثورات الربيع العربي)، والأهداف المرجوة من هذا الانشغال التركي بتطوراتها المتواصلة، وكيفية توظيفها لخدمة مصالح تركيا في المنطقة عموماً.

فقد عملت تركيا منذ بدء ثورات الخريف العربي، على دعم هذه (الثورات) التي هيمنت عليها عملياً حركة الإخوان المسلمين، التي تربطها علاقات إسلاموية خاصة مع حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، وأرادت تركيا من خلالها إحداث تغيير في المنطقة العربية، يمهد لوصول الجماعات الإخوانية الشقيقة إلى سدة الحكم في العديد من بلدانها (مصر، تونس.. إلخ)، في خطوة يفترض بها أن تحدث تغييراً سياسياً – اجتماعياً يؤسس لعلاقات تركية – عربية جديدة مختلفة عما هو قائم راهناً.

وأعلنت تركيا رسمياً دعمها لحركتي الإخوان المسلمين في تونس ومصر، للتغيير المؤقت الذي وقع فيهما، كما أعلنت إدانتها لحركة التصحيح الشعبية العارمة التي جرت في مصر، وأسقطت نظام الأخونة بزعامة محمد مرسي، وعدم موافقتها على استقالة حركة النهضة التونسية من الحكم، الذي لم تعد قادرة على مواصلته.

كما اختطت تركيا موقفاً إقليمياً سلبياً مبكراً من الأزمة التي تشهدها سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، عنوانه التدخل الفظ في الشؤون الداخلية السورية، والمس بسيادتها من جهة، والدعم اللوجيستي الأساسي للمجموعات الإرهابية المسلحة، وفتح الحدود أمامها على مصراعيها، مستفيدة من موقعها الجغرافي، من جهة ثانية. فضلاً عن احتضانها للرموز والهيئات واللافتات المتعددة لما يسمى بالمعارضة الخارجية المرتبطة، بحيث باتت تركيا قاعدة ارتكاز للعصابات المسلحة ومقراً لمؤتمرات واجتماعات هذه المعارضة في آن معاً، وصولاً إلى مطالبتها العلنية بضرورة التغيير الخارجي الإرادوي في سورية، وإيجاد نظام (ديمقراطي) فيها على الطريقة الأردوغانية – الإخوانية.

وإذ مثَّلَ سقوط تجربة الأخونة في مصر وتونس ضربة للمخطط الأردوغاني ولمشروعه في المنطقة، فإن صمود الحالة السورية طوال سنوات الأزمة، وإفشالها للمخطط المرسوم لها، مثَّلَ رداً حاسماً ومفصلياً على مشاريع أنقرة العثمانية- الجديدة.

فحكومة أردوغان التي توقعت أن يشمل مسلسل التغيير سورية بالطريقة التي جرت في البلدان الأخرى، خلال فترة زمنية قصيرة، واجهت حالة من الصمود الوطني أفشلت هذه التقديرات والحسابات الخاطئة وأحبطتها، رغم استفادة تركيا من موقعها الجغرافي الاستراتيجي، على امتداد الحدود الشمالية السورية، ومن ارتهان المعارضة الخارجية والعصابات الإرهابية لمخططاتها.

فقد استفادت تركيا – الأردوغانية من الاصطفاف العرباني (الدولي) المنشغل سلباً بالأزمة السورية، وحاولت في سياقه أن تحقق أهدافها ومصالحها المتقاطعة حيناً مع أطراف هذا الاصطفاف، والمتباينة معه حيناً آخر، وفقاً لمشاريعها وتطلعاتها الخاصة. مستفيدة في ذلك من موقعها الجغرافي مع سورية والعراق من جهة، ومن حجم علاقاتها وفعلها وتأثيرها في المجموعات السياسية والعصابات المسلحة من جهة ثانية. وحاولت في هذا السياق وماتزال وضع المشروع الأردوغاني – العثماني الجديد في صدارة علاقاتها وتحالفاتها مع الدول الداعمة لهذه الحركات والمجموعات، وشكلت في هذا الإطار ما بات يعرف بمحور تركيا – قطر.

ورغم العوامل المميزة للدور التركي، وإمكاناته وتأثيره، مقارنة بالأطراف المناطقية الأخرى، إلا أنها لم تتعظ من الإخفاقات الكارثية للعديد من محاولات التغيير الفوقي الإرادوي، كما لم تقدر تماماً تبعات التباينات مع الأطراف الدولية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وحساباتها فوق المناطقية وصولاً إلى الإقليمية والدولية.

فقد استجابت تركيا اضطراراً أو قبولاً، لدعوة الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاربة الإرهاب، وشاركت في لقاء مدينة جدة، الذي ضمها إلى جانب عشر دول عربية، ووزير الخارجية الأمريكي، إلا أنها أعلنت تحفظها على خطة أوباما، وامتنعت عن المشاركة العملية في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي اتخذ ومايـزال من الأراضي التركية ممراً رئيسياً وقاعدة الارتكاز الاستراتيجية اللوجيتسية.

إذ تنظر تركيا إلى المواجهة (الدولية) المقترحة على علاتها ومخاطرها والملاحظات حولها، بأنها يفترض بها في الحد الأدنى أن تحجّم دور هذا التنظيم الذي تعتبره تركيا آخر أوراقها وأدواتها المؤثرة في المنطقة، بعد أن خسرت ساحتي مصر وتونس، وخرجت خالية الوفاض من الأزمة الليبية.. وبالتالي تقزيم دورها الإقليمي لصالح اصطفاف دولي أوسع وأكبر (يخطط له أن يضم نحو 40 دولة)، تمثل تركيا في حال انخراطها فيه، أحد أطرافه الكثيرة لا أكثر ولا أقل.. والمفترض بها أن تنصاع للمصالح العليا للآخرين، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكية.

وأما الذريعة التركية الرسمية حول وجود نحو 40 تركياً (من عاملي وموظفي القسم القنصلي في مدينة الموصل) محتجزين لدى (داعش)، فإن أقل ما يمكن أن توصف به بالسذاجة، نظراً لظروف احتجازهم من جهة، ولوجود مئات بل آلاف الداعشيين والنصراويين في تركيا من جهة أخرى.

التحفظ التركي على الاصطفاف (الدولي) المفترض، وامتناعها عن الانخراط فيه، يؤكد مرة أخرى مخططات تركيا الإقليمية – العثمانية الجديدة وتبايناتها مع ما هو أوسع منها.. وهنا يكمن المأزق التركي الجديد بعد سقوط مشاريعها الإخوانية في المنطقة.

العدد 1107 - 22/5/2024