من الصحافة العربية العدد 645

جبهة للحرية

 

 لا شيء يتقدّم الآن على أولوية البحث في إدارة التنوّع على مساحة (الشرق الأوسط). نأسف أن نسمّيه كذلك لأنه لم يعُد في هوية عربية ولا هوية إسلامية. كنا نسمّيه العالم العربي برغم ما فيه من تنوع قومي وإثني وديني ولغوي، وكانت (العروبة) هوية ثقافية وحضارية جامعة ومشروعاً قيد الإنجاز في دولة اتحادية. لكن الإيغال في تجاهل التنوع وإنكاره أدى إلى انفجار هذه المشكلات دفعة واحدة. ما نسمّيه الآن (مسألة أقليات) هو في الحقيقة مسألة الأكثريات المضطهدة في الأنظمة الاستبدادية لأنها حرمت حرية العيش بكرامة ووفق حقوق متساوية، وحرمت من ممارسة خصوصياتها والتعبير عن نفسها في الكثير من أشكال التعبير. اغتالت الأنظمة الحرية في المجتمع فحاصرت كل تنوّع غريب عن عصبية تكوينها وإيديولوجيتها وهويتها القومية أو الدينية أو الطائفية.

هناك مشكلة تاريخية قديمة جداً في الاجتماع السياسي حيث التعددية الأغنى في منطقتنا. وهناك تاريخ من المصاعب الكبيرة والمحطات الدموية التي لا يفيد استرجاعها. لكن ذلك كله لم يساعدنا على إيجاد دول وأنظمة في أولوياتها وحدة شعوبها انطلاقاً من مبدأ المواطنة. أمعنّا تشويهاً في مشروع الدولة حتى صارت تنسب لعوائل وسلالات وأفراد وجماعات ومذاهب. ونذهب راهناً في ما هو أشنع في تصنيف الرعايا وفي جعل الجماعات موضع حماية أجنبية كانت أم داخلية، وهذا هو أسوأ أشكال (الذّمّية السياسية) الذي يتطوّع لترويجها البعض، ربما بحسن نية، بحثاً عن حلول سهلة لأزمة مجتمعات عميقة وليس لأزمة سياسية عابرة.

فإذا كانت المسألة في تصادم الهويات وبين قوى لها هويات واضحة، كما تظهّرت صورة مجتمعاتنا اليوم، فليس لأحد أن يخدم أحداً إلا بالاعتراف له بهويته المستقلة وبتفكيره لأننا لن نجد ميزاناً يتوافق عليه الجميع لتصنيف البشر بين الجنة والنار. وإذا كانت المسألة هي تصادم سياسي فالأفق الوحيد المتاح هو قبول معايير السياسة وأحكامها ومفاهيمها، حيث أدوات السلم هي الأَولى قبل أدوات الحرب.

فالإسلام المتفجّر و(العروبة البائدة فكراً وقوى) والشعوب التي لا نجد لها اسماً جامعاً إلا (شعوب الشرق الأوسط) والجماعات المتناحرة على رموز تراثها وثقافتها وذاك الماضي المشوّش والمشوّه والعكر من تاريخها، هي مشكلاتنا نحن لا مشكلات أي غريب. ماذا فعلنا بالإسلام في مراكز دعوته وفقهه وفتاويه وعلمائه؟ وكيف قدّمناه للناشئة والجامعات وسلوكيات البشر؟ وماذا فعلنا بالعروبة وهي تضيق على أجسام أنظمة مسحت فيها كل تخاذلها واعتصرت كل نكهة لها؟ وماذا فعلنا بالغنى والتنوع والتعدد الذي ازدهرت به بعض مجتمعاتنا حيناً فحوّلناه لوحة تشكيلية رائعة ثم جئنا نسترد ألواننا منها؟! مئة سنة ولم نحل مسألة الكرد والمسيحيين، ولا الأمازيغ والأقباط والنوبيين والطوارق والبربر، ولا علاقة الدولة بالجامع ولا سلطة الدين على المجتمع ولا علاقة المذهب الآخر ولا بين الحاكم والمحكوم، ونأتي اليوم لنضع كل هذه التحديات مرة أخرى إما على أكتاف الخارج وإما على سلوك بعضنا تجاه بعض. ويا ليت كل هذه المآسي والكوارث تفتح عقولنا على الأسئلة الفعلية والمسؤوليات وتطرح الهمّ في كيفية معالجتها. أجوبتنا من الجعبة القديمة نفسها ومن الثقافة ذاتها ومن حصريات ووكالات احتكار المعرفة والحقيقة والأرض والسماء.

كل الذين يتقاتلون الآن يذبحون التنوع والتعدد، يسحقون الحرية والكرامة الإنسانية، يهجّرون ويدمّرون وينزلقون إلى أحضان الدول الكبرى التي تدير الفوضى العربية والإسلامية. لا أفق من هنا إلى سلم وسلام وأمن واستقرار ولا انتصارات إلا في رصيد صنّاع الأسلحة وتجارها. هذه منطقة قبض الغرب على عنقها بكل أطرافها منذ اختارت أنظمتها أن تقاوم حاجات شعوبها إلى الحرية والتقدم والتغيير.. والتغيير لا يكون بأفكار الماضي وأدواته.

الإرهاب التكفيري بات قوة خطرة في مجتمعاتنا مدمّرة فعلاً لكل آخر. لكن هل لهذه (الشعوب)، التي ستقاوم، حرية أن تتحالف لتقاوم، تنظم وتفكر بحرية، تستخدم كل إمكاناتها لصناعة نمط حياتها وتطورها أم أن عليها مجدداً أن تقف على الطرف الآخر الذي يحتكر الحق في المواجهة وأشكالها ووسائلها فيأخذها إلى (الحرية بالسلاسل)؟

سليمان تقي الدين

عن (السفير)

 

(داعش) والإسلام السياسي

لم يعد يجدي اللجوء إلى ديباجة التمييز بين النظرية والتطبيق، لتبرئة الإسلام من تشوهات ما يرتكبه بعض المسلمين. التغني بالإسلام نظرياً، بوصفه دين الاعتدال والرحمة، لم يعد يكفي لدحض الممارسات العنفية التي تقوم بها الجماعات التكفيرية من قبيل (داعش) وأخواتها. لقد نجح التكفيريون في تقديم النموذج الديني المشوَّه. فالنموذج الداعشي طغى، أمام العالم، على ما عداه من إسلامات سائدة، وبات يتصدر الواجهة في التعبير عن (الإسلام) السياسي المعاصر، برغم تبرؤ غالبية المسلمين من الممارسات الداعشية ورفضهم لها.

تستدعي الظاهرة الداعشية جهداً إسلامياً مضاداً، خارج الفعل الميداني والعسكري، للحد من مخاطرها المفهومية على الإسلام نفسه. خطورة هذه الظاهرة تكمن في القدرة على ترويجها لإسلام متشدد يقوم على التكفير والقتل. إذ بمقدار ما يثير الفكر الداعشي من استياء واستنكار لدى بعض المسلمين، صار بالمقدار نفسه قابلا للتبني من قبل مسلمين آخرين. فالداعشية باتت تحتل، قبولاً ورفضاً، مكانة أولية في عقول المسلمين ورؤيتهم إلى دينهم. ثمة مِن هؤلاء مَن راقت له مدرسة الدواعش إلى حد المؤازرة لها بالدعاء والتأييد، هذا إن تعذر عليه اللحاق بها والانضمام إليها. وثمة آخرون منهم مَن أصبح مصاباً بـ(فوبيا) داعشية تدفع به إلى حد التشكيك في رحمانية الإسلام ووسطيته وصولاً، في بعض الحالات، إلى ملامسة حدود الردة والانسلاخ النفسي عن الإسلام وتعاليمه. واللافت أنه في كلتا الحالتين،إحجاماً وإقبالاً، يتم الاستناد إلى القول بأن داعش هي الأقرب إلى تطبيق النص الديني والأكثر تشابهاً مع صدر الإسلام!

تربُّع أمريكا على سدة المواجهة لـ(داعش) يعطي هذه الأخيرة (مشروعية) إضافية لدى الكثير من المسلمين، ذلك أنه يكفي أن تعادي واشنطن طرفاً مسلماً حتى يصبح بطلاً وجديراً بالتعاطف معه والالتفاف حوله. حدث ذلك من قبل مع حركة (طالبان) برغم ديماغوجيتها واستبدادها، وحدث مع صدام حسين برغم دكتاتوريته و(مآثره) المشهودة في العراق والمنطقة، فيما يحول العامل المذهبي دون اكتساب إيران التعاطف نفسه برغم العداء الأمريكي لها، في وقت ادَّخرت فيه الحركة الداعشية معظم رصيدها تحت عناوين وشعارات فئوية ومذهبية.

لا يكفي لإسقاط فكر الداعشيين الوعظ والإرشاد والحديث عن وسطية الإسلام واعتداله. كما لا جدوى من نزع الشرعية عنهم عبر استحضار النصوص الدينية التي تحض على الاعتدال والرحمة والمحبة. الفعل الداعشي المتشدد لا يدحضه إلا فعل ديني معتدل ويوازيه في الضدية. ولا قيمة للحديث عن نصاعة المفهوم الديني، مهما كان ناصعاً في الحقيقة، ما دام الداعشيون يمسكون بناصية الممارسة والتطبيق. المعضلة الداعشية في العالم الإسلامي تتجاوز المعطى السياسي والمذهبي. الخلاص من (داعش) وأخواتها يحتاج إلى إعادة بناء حضاري تفتقده المجتمعات الإسلامية، ولا مفر من الاعتراف أن المد الداعشي ليس سوى نتاج التخلف الديني، باعتبار أن فهم الدين وتطبيقاته مقوم جوهري في حالتي التخلف والتقدم لدى المسلمين.

لا حدود للأضرار التي ألحقتها الحركة الداعشية بالإسلام السياسي عموماً والسنّي على وجه الخصوص. ذلك أن المتصور في المشهد الراهن أن كل دمج بين (الإسلامي) و(السياسي) بات ينتج تجارب مشوهة، ويفضي إلى تداعيات ذهنية ونفسية أقرب إلى استحضار التجربة الداعشية من أي إطار سياسي آخر. قد يكون المطلوب، في هذا الخضم، من الحركات الإسلامية إجراء مراجعة تنتهي إلى ممارسة الإسلاميين للسياسة من دون العمل على تطبيق الإسلام سياسياً. في مثل هذه الحالة يمكن النأي بالإسلام عن موبقات التجارب المشوهة.

حبيب فياض

(السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024