ذاكرة الظلم والألم والتسامح…

تباينت التفسيرات التي خاضت في مستنقعات الجانب المظلم للإنسان، لتلتقي عند مبدأ مصونية الطاقة، الذي ينفي تبدد الأفكار وصولات المشاعر، ويؤكد تحولها الى شكل آخر. وبالتالي تبقى ذاكرة الشر يقظة في ثنايا المادة الحية، سواء أكانت جدراناً أم تناسلاً وراثياً أو تقمصاً. مما يوسع دائرة التطهير العرفاني، ويعطيها صفة المجالدة الأخلاقية المتواصلة، لأنها تختزل نسبية العدالة والرحمة. يغدو الغفران أساس الاكتمال الروحاني، المقترن بحتمية التصالح مع جوهر الثواب والعقاب اللاهوتي. ومن هنا يتوطد التمرد عاملاً يضاعف متواليات الشر ويضخم ذاكرة الظلمات، فتنوس الكينونات ضمن دائرة الجلاد والضحية حتى تدرك فخ الخطيئة الأولى.. ضمن هذه المتاهة يتسرب الفيلم الإنكليزي – الأسترالي RAIL WAY MAN THE))، المبني على قصة واقعية تحمل اسم كاتبها إريك لوماكس..

يبدأ المخرجJonathan Teplitzky) ) فيلمه بمشهد إريك لوماكسColin Firth) ) المستلقي على الأرض وهو يردد تيمة عن دائرية الوقت والعودة إلى البدء. ثم ينتقل إلى نادي المحاربين القدماء حيث يواظب إريك الكهل على لقاء رفاقه الجنود المهندسين، الذين أوكلوا لـ(فنيلي) مهمة رتق ذاكرة الألم والضياع طوال الأعوام العشرين التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ورغم مفارقتهم لحياة الجندية وزمنها، إلا أنهم حافظوا على الروح الحماسية القديمة التي وحدتهم إبان محنة الأسر إثر سقوط سنغافورة. فباركوا زواج إيريك من باتيNicole Kidman  بطريقة استعراضية توحي بالالتزام والانضباط العسكري. ومن هنا تبدأ رحلة الممرضة والزوجة باتي التي خبرت المعاناة البشرية، وأدركت بنظرتها الثاقبة كنه الرجل المميز الذي تزوجته. مما دفعها لرفض قانون الصمت الذي طبقه فينيلي حرصاً منه على تخطي ما لا يمكن إدراكه في حياة المحاربين القدماء. فالحرب تترك دوماً علاماتها الجسدية والنفسية التي لا يمحوها تعاقب السنين.

يبنى الفيلم على التوازي بين الماضي والحاضر في انبعاث متجدد لذاكرة الحرب والألم، ليعكس شجاعة إريك الشاب Jeremy Irvine  إبان الأسر، ثم تشتته وعجزه كهلاً عن مواجهة العالم، وتقوقعه داخل شغف حياته الكبير: السكك الحديدية. تبدأ أولى التداعيات بالتواتر على شكل ومضات القسوة التي سجلتها رسوماته. ثم يلوح قطار الشحن المكتظ بالأسرى البريطانيين، ومشهد حرمانهم من جرعة الماء التي قدمها بؤساء المحطة. تعقبه صفقة يفرضها المنتصر الياباني على المهندسين، وتضمن إعفاءهم من أعمال السخرة مقابل استثمار خبرتهم في بناء السكك الحديدية لوصل بورما بتايلاند. ورغم أن بناء السكك الحديدية منذ نشأته قام على استغلال جهود الفقراء المهاجرين من الهنود والصينيين والإيرلنديين الهاربين من المجاعة، لكن الواقع المجحف أثبت أن الحاجة إلى جيش من العبيد أكبر من الحاجة إلى فقراء المهاجرين.

للتغلب على وحشة الأسر ينجح إيريك في إنجاز لاقط بدائي يصلهم بإذاعتهم البريطانية. وحين يكتشف اليابانيون الأمر يجلدونه مع ثلاثة من رفاقه، فتتخذ دائرة الجلاد الضحية طريقها لتسمم ما تبقى من حياة إيريك. فالضابط السري الياباني المكلف بالتعذيب (كمبتاي) يؤجج بوحشيته رغبة إيريك في الانتقام طوال السنوات العشرين، إلى أن تحين الفرصة بعودة الكمبتاي إلى مسرح جريمته دليلاً سياحياً. يرفض إيريك الانتقام من جلاده لأجل باتي، لكن انتحار فينيلي تمرداً على قرار إيريك، يلزمه بالسفر إلى كانتبري لمواجهة قدره والتصالح مع ماضيه المسربل بالخجل والإذلال. ويسفر التقابل بين الجلاد والضحية عن انتصار إرادة الحياة، فالجنود عاشوا كالأشباح لينتقموا، ففقدوا الحب والحياة. وتحتم على أحدهم أن يغلق دائرة الكراهية المتبادلة، تاركاً للعدو خيار تقبل الغفران الكامل. مما قلص المسافة بين مجرم الحرب والجندي المستنزف فالتقيا عند بوابة العزاء، ليكشف التسامح عن ماهية نقية، تستدعي سمواً ونبلاً يتجاوز بكثير محدودية الشرط الإنساني…

العدد 1104 - 24/4/2024