إضاءات فكرية وسياسية في سيرة إسحاق الشيخ يعقوب

أن يكون المرء تقدمياً ومناضلاً من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة في المملكة السعودية في العقد الأخير من النصف الأول من القرن العشرين فذلك يعني أموراً ثلاثة أولها: أنه وصل إلى درجة من الوعي استثنائية خاصة في ذلك الوقت الذي لم تكن البلاد العربية قد شهدت، نهوض الحركات الديمقراطية وحركات التحرر، ولم تقم فيها الدول المعاصرة بمفاهيمها الحديثة ومعاييرها الحديثة، أعني معايير الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وغيرها، وثاني الأمور أنه يتحلى بشجاعة استثنائية فيدعو للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل نظام سياسي لا يرحم، ومجتمع كان يعيش مفاهيم القرون الوسطى وقيمها وتقاليدها، التي أقلها قتل المخالف لولي الأمر بأي شبهة أو قول أوفعل لم يره المجتمع مناسباً، وكان أكثر تخلفاً ورجعية واستبداداً من أن يقبل الرأي الآخر أو النقد أومطالبة المواطن بحقوقه، فضلاً عن الحرية والديمقراطية والمشاركة والمساواة. أما ثالث الأمور فهو استعداد المناضل المسبق لدخول غياهب السجون والخضوع للتعذيب، وللهروب من بلاده. والذهاب إلى المجهول وتحمل شظف العيش ورهبة الاختطاف أو الاغتيال، وهذا كله ما لاقاه المناضل والصحفي والكاتب السعودي إسحاق الشيخ يعقوب، الذي أدرك بحدسه في صغره، وبوعيه في شبابه وكهولته ما يلاقيه شعبه ومجتمعه، ولمس حال المعدمين والمحرومين في بلده، فتصدى مبكراً لمواجهة هذا الواقع بالاشتراك مع مناضلين تقدميين عديدين، فانخرط مبكراً في الحركة العمالية، وأخذ ينشط بشجاعة ودأب وصبر في مجتمعه، فتعرض لما يتعرض له المناضلون عادة وهو الملاحقة ثم السجن والتعذيب، وقد رصد ما كان يلاقيه السجناء في السعودية في ذلك الوقت في كتابه (المساءلة) الذي تحدث فيه عن السجن والتعذيب ودور المخابرات الأمريكية في ملاحقة المناضلين، وكتابه الآخر (أشم رائحة مريم) بجزأيه الذي يرصد سيرته الذاتية، وكم كان مؤثراً وصفه حياة المناضلين التقدميين في السجون وتعرضهم للتعذيب والتنكيل، بينما يعيش المسجونون الآخرون المتطرفون دينياً وهم إرهابيون في الواقع يزعمون أنهم (جهاديون) حياة (دلال) ويؤمن لهم السجان ما يطلبون، وقد التقط إسحاق الشيخ يعقوب هذه الظاهرة ووضعها في كتابه في إطارها الفكري والسياسي الصحيح، ويمكننا الآن أن ندرك أين هي منابع الإرهاب، ودور الأنظمة السياسية في تشجيع هذا الإرهاب واللين مع الإرهابيين حتى وصل الإرهاب إلى ما وصل إليه، بينما تقمع الأنظمة السياسية نفسها المناضلين التقدميين، ولم تكن تحسب حساباً لأولئك الإرهابيين الذين كانت تعتبرهم حلفاء رغم خلافها معهم في وجهات النظر.

وصل إسحاق الشيخ يعقوب إلى النتيجة الحتمية لنضاله التي لم تكن غائبة عنه، ولكن مقتضيات النضال من أجل الحرية والديمقراطية لها الأولوية، وأعني هنا اضطراره عام (1956) للهروب من السعودية واللجوء إلى لبنان (ملجأ المناضلين العرب في ذلك الحين) وأخذ ينتقل بين لبنان وسورية ويكتب في صحفهما، ويشارك في الحراك التقدمي فيهما، ويتواصل مع مواطنيه اللاجئين مثله، وقد تحمل عذابات عشرين عاماً من اللجوء والتشرد والخوف من الاغتيال والاختطاف وخاصة بعد أن اختطف بعض رفاقه واغتيل البعض الآخر، وحاول اللجوء إلى العراق فلم توافق السلطات الأمنية العراقية له، وعاد إلى لبنان، وبقي صامداً صبوراً مثابراً دون تردد أو تراجع، كما بقي عشرين عاماً هارباً من بلاده، مطروداً فهو مهدد بالاعتقال والسجن والتعذيب إن بقي هناك، وبالملاحقة والحصار والخوف إن استمر في لبنان أو في سورية، وخاصة أن سلطات ألأمن السورية كانت تحقق معه على (الطالع والنازل) وقد استغل سنوات اللجوء هذه فذهب في مطلع ستينات القرن الماضي إلى ألمانيا الديمقراطية، وحصل على دبلوم في شؤون الحركة النقابية وإجازة في الصحافة وأخرى في العلوم السياسية، ولنا أن نتصور الجلد والصبر والتواضع التي اتصف بها خاصة أنه تجاوز الأربعين عاماً من عمره عندما بدأ دراساته الجامعية.

خلال لجوئه إلى لبنان وسورية كتب عشرات المقالات في الصحف والمجلات اللبنانية والسورية، ورصد في مقالاته الحال العربي وشؤون الحراك السياسي في البلدان العربية، وكان دائماً واضح الرؤيا يدرك الواقع السياسي والاجتماعي العربي رغم تعقيداته، ويلتقط مفاصله، ويرى مستقبله بوضوح، وقد وصفه أحد النقاد بقوله: (لديه موهبة تصويرية تميز بها وهوشعلة هادئة ذكية نقية أنيقة) كما كان لديه قدرة هائلة على التقاط الواقع وتحليله وفهمه، وخاصة ما يتعلق منه بالمحرومين والمعدمين والفقراء والمناضلين الذين أودعوا السجون وتعرضوا للتعذيب.

عاد عام 1976 إلى السعودية بعد صدورالعفو عنه، واستمر هناك بالكتابة في الصحف السعودية والكويتية، لكنه اهتم خاصة بتأليف الكتب وكان قد نشر عام 1960 كتاب (مطارحات فكرية) وكتاب (قضايا سعودية)، واستمر بالتأليف في كهولته وشيخوخته فألف في أدب السجون وأصدر كتاب (المساءلة) و(إني أشم رائحة مريم) بجزأيه، ثم كتب (بصمات وجدانية) و(في الثقافة والنقد) و( العلمانية طريق التقدم) و(ماهي الليبرالية) و(الإرهاب في جزيرة العرب) و(هكذا تكلمت المعتزلة) وغيرها من الكتب التي منها خاصة كتاب ( وجوه في مصباح الذاكرة) الذي ضمّنه شيئاً عن مناضلين آخرين كانوا يدافعون عن الكادحين والمحرومين وتعرضوا للتعذيب والهرب والتشرد في مختلف بلدان العالم، وكان في هذا الكتاب ذي الأجزاء الستة كعادته يلتقط صوراً وأعمالاً وأفكاراً لهؤلاء المناضلين ويتحدث عنها ويوظفها من جديد في النضال التقدمي والديموقراطي. كما التقط شيئاً عن وجوه لها مساهماتها الفكرية والثقافية وتأثيرها الجدي في مجتمعاتها.

يعيش الكاتب والمثقف والمناضل إسحاق الشيخ يعقوب الآن في بلده السعودية، وكان قد اعتقل بعد عودته وكان عمره عند اعتقاله سبعين عاماً، ولعل هذه من الاستثناءات في تاريخ السجن السياسي، وهو يعيش بهدوء برفقة زوجته المناضلة والصبورة السيدة نعيمة مرهون التي تستحق التحية والتقدير، نتمنى له الصحة وطول العمر.

العدد 1105 - 01/5/2024