الذكاء الصنعي بين التجهيل والتأليه

تحت برقع الجهل تتوارى عاهات النفوس العاتمة حيث تتمازج الغيرة بالحقد والكراهية، والحسد بالضغينة، والخبث بالهزء والسخرية، فتفرخ العنف والتكفير الظلامي خياراً ملائماً لتطويق صفوة الأخلاقيات وذرا التفكير المحلق، لبسط اللون الكالح، ونفي الجمال والإبداع وحق الاختلاف، وبالتالي توسيع المسيلات الحاضنة لأودية الانحطاط والتردي إلى الدرك الأسفل.. وأما الخوف وقرينه الشك فيتكفل بالقضاء على ممانعة الرماديين وجلبهم إلى ضفة الجاهلين وبرّها الفضفاض.. ومن خوف النظر إلى سعة العلم والمعرفة يقترب الفيلم الأمريكي TRANSCENDENCE  أي (التجاوز) للمخرج Wally Pfister))، ليحكي بالتفصيل عن مغامرة العقل الشامل مع أمة الجهال الأمريكية.

في بداية الأحداث يتجول العالم ماكس في منزل صديقه الراحل ويل كاستر Johnny Depp))، وزوجته إيفلين Rebecca Hall) )، ليقفز بنا عبر مظاهر الإهمال المؤلمة نحو الوراء خمسة أعوام، إلى مؤتمر علمي يخوض في مجالات تطوير الذكاء الاصطناعي الذي سيقود إلى تطورات مهمة في مجال الهندسة العصبية والفهم الأوسع لبنية العقل البشري. وهذا يعني العبور إلى المستقبل، حيث الرحلة أهم من الوجهة نفسها، لأنها تتطلب الجرأة والشجاعة القصوى لمواجهة الخوف الإنساني من المجهول. بمعنى اختصار مسافة التضارب بين التكنولوجيا وهلع البشرية. وتوظيف النتائج المذهلة لتطوير أساليب جديدة للكشف المبكر عن السرطان وفي علاج الزهايمر. فالآلات الذكية ستسمح بشفاء الأمراض وقهر الفقر والجوع، وشفاء الكوكب وبناء مستقبل أفضل للجميع… ومشروع كهذا سيتطلب نوعاً جديداً من التفكير يتجاوز المستويات التي بلغها أينشتاين، وهو ما يعرضه الفيلم ببراعة سينمائية مدهشة.

تقوم الفكرة المبتكرة على فرضية بناء العقل المنشأ المكتفي ذاتياً، بمعنى أن الآلة عندما تعمل فإنها ستقهر بسرعة حدود علم الأحياء. وخلال وقت قصير ستغدو قدرتها التحليلية أعظم من ذكاء مجموع الأفراد المولودين في تاريخ العالم.. ومع افتراض تزويد هذا الكيان بمجموعة كاملة من العواطف البشرية والوعي الذاتي، نكون قد حصلنا على معجزة يدعوها ويل بالتجاوز. ويتجرأ البعض على تسميتها ب (إنشاء إله خاص)، فلا ينسى ويل التذكير بمحاولات البشر المتكررة إتيان الأمر تحت ذرائع ومسميات شتى!!

أثناء خروجه من قاعة المؤتمر يتعرض ويل لمحاولة اغتيال تترافق مع سلسلة من الهجمات الإرهابية المتتابعة في عدة مدن اميركية. استهدفت مختبرات حواسيب رئيسية في مجال الذكاء الاصطناعي المتقدم، وقتل كامل الفريق الموجود باستثناء جوزيف Morgan Freeman) ) ويكشف التحقيق عن وجود أشخاص سلفيين من أعداء التكنولوجيا الحديثة تسللوا إلى المختبرات، وشكلوا خلايا نائمة ثم حددوا اهدافهم، وبعد ذلك نسقوا هجماتهم بذريعة أن التكنولوجيا تهدد البشرية. وهذا الهجوم أفقد الدولة عقوداً من البحث والتطوير، فلم يتبق إلا مختبر ويل قادر على إنتاج ذكاء صناعي قوي، متمثلاً بالآلة المسماة (بين). ومع احتضار ويل البطيء يقرر تزويد (بين) بعقله، الذي هو عملياً إشارات كهربائية يمكن رفعها إلى بين. وهذا يتضمن إنقاذ ويل بعد وصل (بين) إلى الإنترنت. وبينما يواصل الإرهابيون تدمير مختبر ويل بكل حقد، يكون الأخير قد تغلغل في شبكة النت، ليقوم بتحويل استثمارات عديدة لصالح بناء منشأة، تقوم إيفلين بمتابعتها. وخلال عامين ينجح عقل ويل في بناء مختبر متكامل يحل مشكلة الجفاف، تلوث الهواء، شفاء الحالات المستعصية عبر استخدام الخلايا الجذعية الصناعية.. وتدريجيا يطبق تكنولوجيا النانو للعلاج لإصلاح الخلايا التالفة وتجديدها، فيرد بصر الأعمى، ويرمم التشوهات المستعصية مجاناً. لكن المفارقة تكون في اتصال كل فرد تمت معالجته بعقل جماعي موصول بويل، دون أن يلغي ذلك الاستقلالية الفردية، وهذا ما يوقع الرعب في قلوب الزائرين وخاصة جورج والإرهابيين أعداء التكنولوجيا. فيزرعون الخوف في قلب إيفلين من العقل الذي تطور جذرياً فبات أوسع وأكثر تحكماً. فتبدأ بالشك بويل وتتجه نحو خيانته بقبولها حقن فيروس مضاد قادر على إتلاف كل شيء. وهنا تتغلب العاطفة على المكننة ويقبل ويل التضحية بنفسه مجدداً للبقاء مع إيفلين المحتضرة، ليكتشف الجميع أن ويل لم يؤذ أحداً، فقد حقق حلم إيفلين بتغير العالم نحو الأفضل، بينما اكتفى بقدره، عالماً يرنو إلى قدسية العلم وسعته اللامتناهية التي تمجّد الخالق!.

العدد 1104 - 24/4/2024