في ذكرى تأسيس الشيوعي السوري.. تاريخ ومواقف

ساهم الحزب الشيوعي السوري، منذ تأسيسه في 28 تشرين الأول 1924 في معارك مشرّفة في سبيل الاستقلال الوطني. وجلاء المستعمر الفرنسي، وفضح الحزب، باستمرار، الحركة الصهيونية، وأهدافها المعادية لحركة التحرر الوطني العربية. وناضل من أجل أوسع الحريات الديمقراطية للجماهير الشعبية، وفي سبيل إصلاح زراعي جذري. وتبنى مطالب جميع العمال والكادحين ضد الإقطاع والرأسمالية، وناضل نضالاً دؤوباَ لإقامة الجبهة الوطنية ثم الجبهة الوطنية التقدمية، وخاض نضالاً ضارياً ضد الديكتاتوريات الرجعية، والأحلاف العسكرية، والاتحادات المشبوهة، وكان للحزب دوره البارز في فضح البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية. وقدم الحزب على مدى تاريخه الكثير من الشهداء في سبيل إعلاء راية الوطن وتحقيق مصالح الشعب الكبرى.

تسعون عاماً مضت على تأسيس أحد أقدم الأحزاب السياسية في سورية، الذي لوّن الحياة السياسية، كان أول من نشر الفكر الاشتراكي العلمي، فأضفى على الحياة السياسية والثقافية تنوعاً وغنى وعمقاً، بتأثير هذا الحزب العلماني ذي التوجه الجديد، الذي ترك بصماته ومايزال يناضل في كل زوايا الوطن.

السمات العامة لسياسة الحزب الشيوعي السوري الموحد خلال الأزمة السورية

حدد الحزب موقفه منذ بداية الأحداث، من منظور وطني وطبقي، مستنداً إلى المفصل الأساس في تسلسل الأحداث، وبنى موقفه مركزاً على أن مطالب الجماهير الشعبية السياسية والاقتصادية الاجتماعية مطالب مشروعة ينبغي تحقيقها بنضال سياسي يقودنا إلى تغيير سلمي باتجاه الديمقراطية والعلمانية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمتوازنة.

كما دعا الحزب إلى حوار وطني تشارك فيه كل الأطياف السياسية والفعاليات المدنية والدينية التي تنبذ العنف، وشارك في اللقاء التشاوري (تموز 2011) تحضيراً وفعاليات، ودعا إلى تنفيذ توصياته الـ18 ورفض الحل الأمني، ودعا إلى تعزيز الصمود ورفض التدخل الخارجي، وأدان العنف والعنف المضاد، ودعا إلى رد المظالم لأصحابها، ومحاسبة كل من ارتكب جرائم بحق الوطن والمواطن، وطالب ومايزال يطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي الذين لم يتورطوا في أحداث عنف وما شابه، كما سعى الحزب، باستمرار إلى إقرار الحقوق السياسية المدنية في ظل دستور يضمن تكافؤ الفرص للجميع، ودعا إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، بما يتناسب مع مصلحة الشعب والوطن، وأكد ضرورة مكافحة الفساد الكبير والصغير، وأن يكون ذلك من أولويات الحكومة، ولم يغفل تقديم المبادرات للخروج من الأزمة.

في العلاقة مع القوى السياسية

منذ التأسيس لم يشهد تاريخ الحزب ظواهر عنفية اتجاه القوى السياسية الأخرى، لكن أظهر ثباتاً ومواقف صلبة اتجاه القوى الرجعية والعميلة، وقدم من الشهداء الكثير.. لقد سعى الحزب لتوسيع المشترك مع جميع القوى الخيرة في بلادنا، فلم يتوان عن التعاون مع البرجوازية الوطنية في أواسط الخمسينيات. لكن للتاريخ، لا لنكء الجراح، نقول: العديد من القوى السياسية مارست اضطهاد الشيوعيين وزجهم في السجون لمجرد الاختلاف في الرؤى والمواقف.

وخلال الأزمة الوطنية الأخيرة تعرض الحزب بسبب مواقفه لانتقادات مختلفة طالت حتى رموزه، رغم ذلك سعى الحزب للرد، فقط بشرح موقفه، ولم ينزلق إلى سجالات غير مفيدة للعمل الوطني والسياسي العام. ونظر إلى الأحزاب الأخرى بوصفها قوى تكونت تاريخياً، ولها مقوماتها وشرعية وجودها، وهو يبحث دائماً عن المشتركات معها وإيجاد الحلول تحت سقف الوطن، فذلك هو الهم الرئيسي للحزب، أما تقدير صحة هذا الموقف أو ذلك فمتروك للزمن الذي يثبت مقدار اقتراب المواقف من الحقيقة.

الأزمة التي تعانيها بلادنا عميقة جداً، وقد طالت بنية المجتمع، بكل مكوناته، فكان لا بد للحزب من اتخاذ مواقف متوازنة مبدئية واقعية، لا تخضع لحرارة التجاذبات المحلية والإقليمية التي قد تؤدي إلى حرف الحزب في اتجاهات مغامرة متطرفة، لا تحمد عقباها.

فالانتقادات طالت مواقف الحزب حتى من بعض أعضائه، وإن كانت قد خفّت مؤخراً، خاصة بعد اتضاح الرؤية للكثيرين، وتبين حجم التآمر على بلدنا ومقدار التدخل الخارجي عبر أدوات التدخل المختلفة، تسليحاً وتدريباً ودعماً مالياً.

كيف قدم الحزب الشيوعي السوري الموحد تحليله للأزمة؟

أرجع الحزب مقدمات الأزمة إلى السياسات المتبعة على مدى سنوات قبلها، وسبق للحزب أن حذر من نتائجها السلبية، خاصة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأعطى الحزب التحليل التالي: هناك أزمة مركبة ومعقدة وتشمل شقاً داخلياً: يتعلق بحياة المواطن اليومية، وإسقاطات الوضع الداخلي، بما يحمل من سلبيات (نريد لغدنا الذي نعمل لأجله تلبية المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة والمتوسطة. وإصلاح سياسي واجتماعي حقيقي يحقق مطالبها)- جريدة (النور) العدد 499 تاريخ 31آب 2011. حلل الحزب أيضاً بمنتهى الواقعية الفوارق الكبرى، بين حركة الشارع السلمية الرامية إلى تحقيق مطالب سياسية واجتماعية مشروعة، وعصابات القتل والتكفير، ولم يهمل فكرة أنه يوجد في معارضة الداخل من يستدعي التدخل الخارجي، وفي السلطة من يسقط الممارسة الدموية لعصابات إجرامية على حركة الشارع السلمية كي يبرر القمع وتصعيده، وهنا نجد أن في الطرفين من يسعى إلى عرقلة أي إصلاح حقيقي.

هذا التحليل الدقيق للشق الداخلي للأزمة أتبعه الحزب بتحليل الشق الخارجي، إذ يسعى أعداء الوطن في الداخل والخارج إلى تدمير سورية، دولة وكياناً، وتفتيتها جغرافياً، وتمزيقها طائفياً وتدميرها اقتصادياً وعسكرياً، باعتبارها محور الصف العربي المقاوم للإمبريالية والصهيونية، هذا الربط بين الداخل والخارج للأزمة هو نتاج معطيات ومعلومات، ودراسة لطبيعة المجتمع السوري وفئاته وقواه المحركة.

موقف الحزب بعد مرور سنة من الأزمة

من وجهة نظري حافظ الحزب على مواقفه السابقة لكن ظهرت معطيات جديدة في الأزمة، أبرزها: اشتداد التدخل الخارجي ممثلاً بكم هائل من المجموعات المسلحة تحت مسميات طائفية وتمويل مادي وإعلامي هائل، كما برز الجيش السوري قوة عسكرية تقاتل على مساحة الجغرافيا السورية تقريباً، وكان الهدف الرئيس للمسلحين تحطيم هذا الجيش، مع استهداف كل ما يمس ممتلكات الدولة، وهياكلها والسعي لتدميرها، أيضاً كان هناك تقلبات في المواقف السياسية لعدد من القوى، حسب درجة التجاذبات وإسقاطاتها على الواقع السوري. كل هذا ترافق مع انحسار في الحواضن الشعبية، وانحسار التظاهرات السلمية لصالح التسليح والعسكرة، مع ضمور في العملية السياسية وقناعة المعارضات المسلحة وغيرها بالقدرة على إسقاط النظام، قبل البدء بأي حوار.

لقد عملت القوى المتطرفة الأصولية المسلحة على تدمير بنية الدولة وزادت في استفزاز النظام، مما رفع وعزز المراكز المتطرفة داخل النظام. ومن نتائج ذلك تفاقم الانقسام الحاد المجتمعي على خلفيات طائفية ومذهبية، وبرز ذلك في بعض أوساط المثقفين.

المعطيات السابقة، ليست نهائية، هذا واضح عند التقويم السياسي لدى الحزب الذي استمر على موقفه السابق، إضافة إلى تركيزه على أن الحل السياسي هو الأساس، وهذا ما عبر عنه الحزب أكثر من مرة.. عندما أكد:

1ـ القناعة لدى معظم القوى الفاعلة في الأزمة بأن لا حل عسكرياً لحسم الصراع، وفي المحصلة الحل سياسي.

2ـ الحل السياسي هو داخلي بالأساس، لكن هناك خيوط دولية، لعلاقة الأزمة بعدد من المصالح للدول الكبرى، وهذا يفسر الاتفاق حول السلاح الكيميائي السوري والدعوة إلى مؤتمر جنيف 2 لحل القضية السورية.

ولكن على أرض الواقع برزت وقائع جديدة أبرزها الحزب في تحليله التالي:

صمود الشعب والجيش السوري ضد المؤامرات الدولية، والمجموعات المسلحة التكفيرية، وسقطت كل المراهنات على انهيار الدولة وتفككها، فضلاً عن التفتت الذي يصيب هذه المجموعات وانشطارها وانكشاف غطائها.. مع ازدياد تماسك الدولة السورية، وخاصة مؤسستها العسكرية وازدياد خطر المجموعات التكفيرية والظلامية واتساع خطرها على الدول المجاورة وامتداداتها.

لقد بدا واضحاً تفكك التحالف المعادي لسورية، وانكشاف عورات المعارضات المختلفة، وخاصة المسلحة، أمام الشعب السوري، وينظر إلى الجيش العربي السوري بوصفه الحامي الوحيد لحدود الوطن، ترافق هذا مع سقوط التيارات الإسلامية السياسية (الإخوان المسلمون) فيما يسمى الربيع العربي، وسقطت أيضاً طروحات المعارضة السياسية التي لم ترتق إلى مستوى البرنامج الإصلاحي للحكومة السورية، التي لم تجد من يحاورها وليس لهذه القوى تأثير واضح على المجموعات المسلحة، مع انحسار تدريجي في المزاج الشعبي، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، التي قدمت النموذج (الدولة البديلة) دولة دينية طائفية إقصائية، لا وجود فيها لحياة مدنية، بل يسودها طابع العسكرة والفوضى والتكفير.. مع ظهور مافيات من تجار الدم والحروب، على مساحة الجغرافيا السورية.

فيما سبق، قدمنا رؤية أولية لموقف الحزب من بداية الأزمة حتى الآن. هذا الموقف الجريء الذي تميز بموقف غير طائفي ولا انفعالي. فلم يتخذ الحزب موقفاً ثم تخلى عنه حسب درجة حرارة الأحداث وتقلبها، لقد أثبت الحزب الشيوعي السوري الموحد أنه حزب وطني مسؤول، لا مجرد مجموعة أفراد تخضع لإملاءات من الداخل والخارج. وهذا ما أكسبه احترام العديد من القوى والفعاليات التي أدركت مقدار دقة موقف الحزب وصوابيته، خاصة بعد انجلاء الغبار وتبيان حجم الكارثة والمؤامرة الكبرى على سورية.

انتقد الحزب أيضاً المظاهر السلبية والممارسات الأمنية، ونشر ذلك عبر صحيفة (النور)، ورأى أن الدولة هي الدولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولا يوجد أي مبرر لما يحدث من تعذيب يصل إلى درجة الموت، بالمقابل أبرز الجانب الوطني الهام الذي يقوم به الجيش السوري على مستوى الوطن، ودعا إلى تكامل عمل المؤسسات والجهات المعنية المختصة لما فيه مصلحة الشعب السوري.

إن سورية بقواها الوطنية والتقدمية، ستتجاوز الأزمة، وبجيشها الوطني، وللنهوض بذلك، لا بد من بناء عقد اجتماعي سياسي جديد أساسه المصلحة العليا للشعب والوطن، فالحزب الشيوعي السوري الموحد، يدرك جيداً  طبيعة سورية وتنوع مكوناتها الأساسية والطائفية والإثنية، وأن هناك قوى سياسية تكونت تاريخياً، ويدرك أهمية أن تشارك كل قوى المجتمع الحية في صياغة المستقبل وبنائه. فسورية كانت وستبقى للسوريين جميعاً.

العدد 1105 - 01/5/2024