التطرف في لبنان.. إشكالياته وانعكاساته

ربما لا نضيف جديداً إذ نشير إلى تزايد ظهور المتطرفين الإسلامويين في العديد من المناطق اللبنانية، وبخاصة مدينة طرابلس (عاصمة الشمال) ومنطقة البقاع، وبضمنها جرود لبنان الحدودية مع سورية.. وإن كانت أحداث بلدة عرسال الحدودية قد كشفت عن مدى التداخل والترابط بين الأحداث الجارية في سورية، وبخاصة في منطقة جبال القلمون وامتداداتها في سلسلة جبال لبنان الشرقية الحدودية وجرودها، والعديد من المناطق الداخلية اللبنانية من شمالها إلى جنوبها.

فقد ظهرت المجموعات أو الجماعات الإسلاموية مبكراً في مناطق لبنانية عدة، بوصف لبنان خاصرة رخوة، قبيل الأزمة السورية بفترة طويلة، وبخاصة في مدينة طرابلس وجوارها، وبضمنها مخيم نهر البارد شمالاً، إلى محيط مدينة صيدا (عاصمة الجنوب)، وتفاعلات قضية أحمد الأسير (المختفي منذ شهور طويلة)، التي انتشرت كالفطر في الساحة اللبنانية، وبخاصة في المناطق المصنفة سنياً.

وعكس هذا الظهور مدى نفوذ هذه المجموعات الإسلاموية، وطبيعة (حاضنتها الشعبية) بين منطقة وأخرى، فضلاً عن ماهية علاقاتها بالخريطة الحزبية- السياسية اللبنانية القائمة، وكيفية (توظيفها) لها، أو كيفية تعاطي هذا الظهور وهذه الجماعات مع هذه التركيبة اللبنانية القائمة.

ونذكر في هذا السياق، أحداث مخيم نهر البارد، وقبلها الظهور (المؤثر) للجماعات الإسلاموية في مدينة طرابلس، التي تضاف إلى تعقيداتها العرقية والإثنية، والأحداث في مخيم عين الحلوة (أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان)، وتالياً كيفية تعاطي القوى والأحزاب السياسية اللبنانية، مع تزايد نفوذ هذه الجماعات وصولاً إلى بروز المجموعات المتطرفة والسلفية ومنها المجموعات المسلحة.

إذ عكست مواقف الخريطة الحزبية – السياسية اللبنانية نفسها على ماهية التعاطي مع هذا الظهور، وتالياً تبعاته، كما شكلت مدخلاً خارجياً، جديداً للتعامل مع الساحة اللبنانية عموماً وأحداثها المتتابعة، وخاصة مع استمرار الأزمة السورية وامتداداتها وانعكاساتها في الساحة اللبنانية.

ويترك التداخل الجيوسياسي السوري- اللبناني آثاره على الحالة اللبنانية، وقد شكلت ملحمة مدينة القصير الحدودية الاستراتيجية ونتائجها وتداعياتها على منطقة الحدود اللبنانية – السورية المتشابكة أصلاً، عنصراً إضافياً مؤثراً على الأحداث المتتابعة في لبنان، وعلى كيفية تعاطيه مع ازدياد نفوذ هذه الظاهرة الإسلاموية، ومدى الترابط بينها وبين تطورات الأحداث الجارية في سورية أيضاً، وأظهرت بمجموعها تجاوز انتشار هذه الظاهرة وهذا الوجود، الحدود الجغرافية أولاً، ووجود تربته الحاضنة الجاهزة، لأسباب عديدة، ثانياً، وإن كانت مؤشراتها مبكرة في لبنان، بسبب طبيعته الإثنية وتعقيداته، ونتيجة لكيفية تعامل القوى والرموز السياسية اللبنانية والوطنية والمناطقية أيضاً.

وأكدت أحداث بلدة عرسال الأخيرة (قبل أسابيع قليلة) تعقيدات الحالة اللبنانية، وبخاصة طبيعة الاصطفاف السياسي فيها، وحجم التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد الداخلية، وكيفية توظيفها، مستفيداً من حالته الداخلية وفرادته الإقليمية أيضاً، فضلاً عن مخططات هذه الجماعات للاستفادة من الأحداث الجارية في جواره وبخاصة سورية.

وإن كانت أحداث بلدة عرسال، على أهميتها وخصوصيتها، قد أظهرت كيفية تعاطي الفرقاء اللبنانيين معها، بغض النظر عن حقيقة مواقفها، واضطرارها أو إقرار غالبيتها بالالتفاف حول الجيش اللبناني ودوره في حسم أحداث عرسال ومعالجة تبعاتها، وبضمنها ما هو قادم، وبخاصة موضوعة الحدود الواسعة اللبنانية – السورية وتشابكها، سكانياً ومعيشياً وخدماتياً، وصعوبة ضبطها ومراقبتها، فإنها أكدت مرة أخرى، ما حذرت منه دمشق مبكراً، وفي الصدارة أن ما يجري في سورية لا ينحصر في الجغرافيا الوطنية السورية، بل يتعداه إلى دول الجوار، وما هو أبعد منها لاحقاً، وأن الأوضاع اللبنانية مهيأة أكثر من غيرها للتأثر بهذه الأحداث وتداعياتها، وذلك بسبب طبيعة الحالة الداخلية اللبنانية من جهة، وحجم التدخل الإقليمي و(الدولي) في شؤونه الداخلية واستخــــــــــدامه دولياً من جهـــــــــــة ثانية.

وهذا ما حذر منه أيضاً حزب الله مبكراً، خلال نتائج معركة القصير (السورية) الحدودية وبعيدها، وأكد أن مشاركته في ردع القوى التكفيرية في المناطق الحدودية، تمثل خطوة هامة نحو عدم امتدادها إلى الساحة اللبنانية، أو تقليل تأثيرها فيها (تفجيرات، اغتيالات، عبوات ناسفة، إلخ)، وهذا ما أشارت إليه العديد من القوى العلمانية (الحزب الشيوعي وغيره)، كذلك الكثير من القوى والرموز القومية والوطنية والمذهبية اللبنانية أيضاً.

إن محاولات استفزاز قوى المقاومة اللبنانية، على تنوعها واختلافها، بأن مجرد دعمها أو تأييدها لسورية، قد مهد الطريق لظهور قوى التطرف الإسلاموي في الساحة اللبنانية، قد عرته تماماً أحداث عرسال وتداعياتها خاصة في منطقة الجرود الحدودية اللبنانية عموماً، كما أن رفع أعلام داعش مؤخراً في العديد من المناطق اللبنانية، بدءاً من طرابلس، على أهميتها وخصوصيتها، إلى بلدة حاصبيا الجنوبية، على أهميتها وخصوصيتها أيضاً، يؤكد ما طرحته دمشق مبكراً، حول الجاهزية الداخلية اللبنانية لارتدادات الأزمة السورية، والإمكانات الواسعة لتوظيفها واستخدامها من قبل الدول العربانية وغيرها.

إن الحل اللبناني لهذه الظاهرة وتبعاتها يتطلب التوافق اللبناني بقواه ورموزه، حول ضرورة وحدة الموقف اللبناني وتجنيبه انعكاسات الأزمات المحيطة به ما أمكنه ذلك، وبخاصة بعد أن أعلنت دولة الخلافة الإسلامية أن حدودها مفتوحة إلى حيث يصل مجرموها، وأن ذلك يتطلب معالجة تتجاوز المواقف الفئوية للعديد من القوى اللبنانية، وبضمنها عودة سعد الحريري، ربما الاضطرارية، وإعلان مواقف واضحة من القوى اللبنانية، حول المسائل اللبنانية أصلاً، كذلك الإقرار بتشابك الحالة السورية – اللبنانية، وتالياً كيفية معالجتها، وضرورة الخروج من حالة الفراغ الرئاسي إلى تصحيح العلاقات الرسمية والحزبية اللبنانية فيما بينها، ومع جوارها العربي وبخاصة مع سورية.

العدد 1105 - 01/5/2024