رجع أيلول …

حين يعود أيلول كل عام نستعد  لتفاصيل حياتية نعيشها في ذروة النشوة بالغيم والمطر، نتذكر المدرسة،وألوان الفرح، وأسماء وأغنيات كثيرة، فلأيلول رسائل ندركها لاستعدادات الشتاء القادم بكل تفاصيله.

 وقد يكون للمكان بهجته وحكايته مع شهر أيلول، لكن لدمشق بوابته الكبيرة التي تطل على ياسمينها لتخفف من وجع الأصفر على أغصان أشجارها، فهاهو ذا أيلول يعود بقدسيته وبكامل أبهته ليطل على دمشق الموجوعة من المشاهد القاسية ومن ورقه الأصفر ذي المشهد الحزين.

لكن لأيلول أيضاً ذاكرته وحكايته في الغناء والموسيقا، لا لأنه شهر انتقال الفصول من الحرارة إلى عذوبة المناخ وسحر الغيوم وانقلاب اللون بسيمفونية البهاء وحسب، بل لأن لأيلول احتفالاً وكرنفالاً روحانياً بأبعاده المختلفة، خصوصاً حين يلتقي مبدعٌ وشاعر كبير مثل جوزيف حرب ينتقي مفردات الجمل الشعرية بجمالية وحساسية خاصة، وعبقري اللحن وصياده فيلمون وهبه، مع صوت فيروز الوجداني في عمل موسيقي وغنائي مميز ومختلف عبّر عن شهر أيلول بكل جمالية وسحر في أغنية (ورقو الأصفر).

في مقدمة الأغنية الموسيقية يلعب فيلمون وهبه في مقام الرصد لعبته التقليدية في الدخول إلى مناخ الأغنية عبر جملة موسيقية سهلة تؤديها الكمنجات مع الإيقاع (الدف)، ولكن صوت الناي يأخذ بعده الروحاني عبر (صولو) ممايز ومختلف ليقود الكمنجات إلى الجملة ذاتها، فيما بعد يبدأ صوت فيروز محلقاً عالياً في جملة (ورقو الأصفر شهر أيلول/ تحت الشبابيك/ ذكرني وورقو دهب مشغول/ ذكرني فيك) ويعيد صوت فيروز جملة (ذكرني فيك)  مرتين في عُربٍ صوتية طويلة لتعبر عن الاستغاثة من حالة الذكرى، ومن وجع لحظة الغياب، ثم يأتي الكورس ويؤدي الجملة ذاتها ليتثبت اللحن بشكله العادي.

في الكوبليه الأول يدخل مقام الرصد بتحويلاته الجمالية المختلفة وخصوصاً حين يصل اللحن إلى ذروته في جملة (رجع أيلول) ليتبعها صوت فيروز بـ (الليالي)، التي تعكس جوهر المقام وهويته،  وكأن المستمع هنا أمام حالة طربية بامتياز،  وخصوصاً حين يترافق مع صوت الغناء نقرات القانون التي تصور من بعيد حالة التطريب. لكن ذلك لا يستمر طويلاً كما جرت العادة في الأغنيات الطويلة، بل أراد فيلمون هنا أن يطل على التطريب في تأمل خاص، فاللحن يهيئ المستمع للدخول في جو الو حشة والغربة والحزن عبر جملة (بيصير يبكيني شتي أيلول/ يفيّقني عليك ياحبيبي).

وبذلك يفتح فيلمون وهبي باب التطريب والتأمل والوجد على مصراعيه عبر الكوبليه الثاني، حين ينتقل بالنغم واللحن إلى فضاء مختلف فتصل الاستغاثة ذروتها في الكشف عن البساطة في اللحن، فيتحول المقام إلى مقام البيات العذب البسيط والعميق في جملة (ياريت الريح إذا إنت نسيت / حبيبي أول الخريف وماجيت) فنسمع هنا مقام البيات المرتبط بالعذوبة والبساطة والعمق، ولكن في جملة (ينساها الحور وقمرها يغيب/ وليلا يطول / ونبقى حبيبي غريبة وغريب / أنا وأيلول) تختلف الاستغاثة لتعطي بعدها الجمالي الخاص والروح المتجددة.

العدد 1107 - 22/5/2024