تجربة لونية بانعطافات لا تلوي على اجترار… الفنان التشكيلي جورج شمعون: هاجسي دائماً تحويل النص الأدبي إلى لوحة فنية

شيءٌ ما.. كان حاضراً بقوة في مخيلة الفنان التشكيلي جورج شمعون طوال الوقت، شيٌ ما.. كان يدفعه دائماً للبحث عن حلولِ بصرية للنص الأدبي الذي كان باعثه لإنتاج لوحة فنية مفارقة إلى حدٍّ بعيد..هذا المُعادل البصري للنص الأدبي كان أحد ملامح خصوصية هذا الفنان، الذي كانت التفاصيل السورية القديمة موضوع اشتغاله الدائم بصياغات مختلفة، شكلت جميعها ما يُشبه البحث على أكثر من مستوى، حيناً يأتي بعمارة اللوحة وبنائها، وطوراً يجيء بملامح بحث عن هوية سورية خالصة، و..تارةً يتهادى في إيجاد خصوصية فنية أخذت أكثر من انعطافة، و. جورج شمعون هو من أوائل الفنانين السوريين الذين بفضلهم دخلت اللوحة النحاسية بجمال القدامة والعتق في المشهد التشكيلي السوري، جورج شمعون صاحب الرؤيا التي تشف برومانسية الأرواح الهائمة الباحثة عن الانعتاق.

الأرض القديمة

جورج شمعون الذي كانت الديار السورية الواسعة والمتنوعة أمكنته، حضرت جمالياً في لوحته، أو التي أخذت دور (البطولة) في مشهده البصري، استقرّ مؤخراً بطرطوس، وهي محطته الحالية، والتي كان مرسمه فيها أشبه بمعرض تشكيلي دائم ومستمر.

عن الخطوات الأولى في مساره الفني، يبدأ جورج شمعون – كما يقول – من الرسم الواقعي، وذلك على مبدأ المحاكاة البسيطة والنقل الحرفي للشكل الخارجي ومطابقته للعمل، جاء ذلك بحكم الضرورة الأولى من أجل التمّكن من اللون والتشريح، و..هذه الحالة المدرسية الأكاديمية استمرّ خلالها شمعون لما يُقارب عشرين سنة، أنجز خلالها لوحات: البورتريه، والمناظر الطبيعية، والطبيعة الصامتة، و.. الموضوع الأثير للكثير من نفوس الفنانين، وهو موضوع المدن والأحياء العتيقة.

و..قبل أن تنضج التجربة، كان على جورج شمعون أن يخطو الانعطافة الثانية، التي تمثلت بمحاكاة الجوهر، صوب الواقعية التعبيرية هذه المرة، والتي كانت بوابة للانعطافة الثالثة، وهي التي أعطت التميز لهذا الفنان الذي كانت نصوص الشعراء، والملاحم، والأساطير، و..الكثير من النصوص النثرية باعثاً لإنتاج اللوحة الفنية كمعادلٍ بصري للنص الأدبي، الذي شكّل هاجساً حقيقياً لجورج شمعون كما يذكر.

ترويض اللون

و..هنا أسأله: كيف تمّ لك ذلك، كيف استطعت ترويض اللون ليأخذ من النص الأدبي عمارته التشكيلية، فيجيب: قمت بدراسة موسيقا اللوحة خلال هذه الانعطافة، وأقصد بذلك التوزيع الهارموني للون والإيقاع من خلال الشكل، ومن خلال اللون، وهنا جاء المعادل البصري كمن يستوحي مسلسلاً درامياً، أو فيلماً سينمائياً من رواية أدبية، لقد دمج شمعون بين النص الأدبي والنص البصري، و..عمل على تقابل الفنون.

صحيح أن المتلقي للوحة جورج شمعون، يمكنه أن يقرأ أكثر من مستوى في هذه اللوحة، هذه اللوحة التي تقول حكاية لونية كاملة. لكن ثمة مستويين يحضران بوفرة على طول التجربة، وهما بقدر ما يتكاملان، بقدر ما يبدوان على تضاد، أما هذان المستويان فهما المكان، و..ناس هذا المكان، ففي لوحة شمعون تحضر شخصيات خيالية أو هي أطياف تشف حتى التواشيح، شخصيات دائماً في حالة بحث عن سموٍّ ما، حالة من التسامي يشتغل الفنان على شفافيتها طويلاً، وفي تفسيره لهذه الحالة التشكيلية، يقول شمعون: في شغلي أركّز على أمرين المكان والناس الذين مروا من هنا..من هذا المكان، وطالما كان البقاء للمكان، فيما الشخصيات تبقى مؤقتة فيه، من هنا فإنّ المكان يكتنز بذكرى، وذكريات ناس المكان الذين يعطون القوة والثبات وكذلك الديمومة له، المكان الذي يظهر بهذا الثبات، فيما (ناسه) مجرد أطياف شفافة.

لون الحياة

و..في اشتغال شمعون على هذين المستويين كان الاعتماد على رمزية اللون، اللون الذي حضر بكل أبعاده وغاياته، فكانت اللوحة أقرب إلى (الإيقونة) وتزويقاتها ورموزها اللونية، والتي ستكون هنا العتبة للدخول في انعطافة الحجر الرملي التي استمدها من عمارة الحجارة الرملية من طرطوس العتيقة، وآثارها البحرية القديمة.

و..في تلويناته، أي قبل تنوعاته على (ألوان الحجر الرملي العتيق) كان الأحمر الذي هو أقرب الألوان أحد أهم مفردات لوحة جورج شمعون، وكذلك الأزرق البترولي، الذي هو برأيه أبعد الألوان، وبين هذين اللونين أفعم شمعون لوحته لونياً، وزخمها بمعايرة الوزن في اللون وكذلك قرأ  تنويعات على حالات البعد والقرب اللونية، فكانت ثمة ألوان خفيفة تتطاير و..تتصاعد، فيما ألوان أخرى تأتي بكامل ثباتها لتكون مبتدأ اللوحة من الأسفل، وألوان أخرى تستريح بوسط العمل الفني، وعلى سبيل المثال يأتي اللون الأخضر – كما يقول – على بعض اللوحات كمزيج بين لونين هما الأزرق وهو لون الماء العذب، والأصفر وهو لون عشتار لون الأرض وهذا المزج يعطيك اللون الأخضر، الذي هو لون الحياة. مع مراعاة الخطوط التي تتلوى بين هذه الألوان لتعطي التكوين العام للعمل الفني، وذلك بتسللها حيناً، و..طوراً بصعودها الكاشف والحار، أو بحركتها الهابطة، والداكنة التي تُعطي إحساس البرودة، فيما وقع على الخطوط المائلة مهمة إعطاء اللمسة الحزينة والرومانسية في اللوحة التشكيلية، و..كانت الغاية الجمالية في كل ذلك – كما يقول- خدمة الحالة السردية والأدبية للعمل الفني الذي كان باعثه نصاً أدبياً، بمعنى أنه كان ثمة نص – مشهد سردي آخر على المتلقي أن يكتشفه، و..يستمتعُ به، و..من هنا تكون اللوحة عند شمعون أقرب للعمل البحثي رغم كل الحالة الغنائية والشعرية التي تسمُ هذه اللوحة. و..في استخدامه تقنية الغرافيك يوظف لوحاته الصغيرة التي كان للون البني الحضور الأقوى فيها مزاوجة مع الأسود، وبطرحٍ تشكيلي تغلب عليه المؤثرات البصرية وخاصة في خلفية اللوحات، وبما يخدم تناغم الخط مع الفكرة وبمواضيع تراثية منسية وأشياء لها علاقة بحضارتنا الشرقية يبرز حضور الخط المرن الذي ساعد الفنان على صياغة أفكاره وتقديمها بمراوغة فنية مجتهدة – على ما يرى الكثير من المتابعين لهذه التجربة الفنية –

تقابل الفنون

جورج شمعون لم يكتف بالنص المعاصر، ليوحي له بالعمل الفني، وإنما اتجه صوب النصوص السورية القديمة، فحضرت قصص وحكايا الأسطورة كمشهد بصري معادل للحكاية مع إيجاد استطالات لها تشدها باتجاه إسقاطاتها المعاصرة.. هكذا ستحتفي لوحة شمعون بمأساة وتراجيديا  أبن (أفتونوي)، وأيضاً بمغامرات ابنة (قدموس) بين هذه القدامة للنص الموحي للتشكيل، يصل شمعون إلى النص المعاصر مثل (أنجيل الأنهار) للشاعر فايز خضور ليلوّن الوجع بالنص الشعري، و..كأنه تجلٍ لما يحدث لسورية اليوم من محن، إضافة للنصوص العرفانية للروائي إبراهيم الخليل التي استمدها شمعون من حوارية بين شيخٍ ومريده، والتي كان حصادها الفني معرضاً كاملاً من اللوحات الفنية. إضافة إلى أشعار لأبن حزم الأندلسي، نزار قباني، جوزف حرب، أدونيس، محمود درويش، وكذلك من كتابات الروائية أحلام مستغانمي. وقصيدة الشاعر الفرنسي (غيفيك) التي كتبها عن الشاعر السوري أدونيس تلك التي فتحت له أبواباً لونية بكامل الشاعرية والشعرية.

طرطوس العتيقة

و..من عمارة الحجارة المواجهة للبحر منذ آلاف السنين لطرطوس العتيقة، من عمارة عمريت، وغيرها من الصروح التي تقف بوجه الريح، وكأنها تتحدى السنين، ومن ملمس هذه الحجارة، من تدرجات ألوانها، و..من صمودها، كل ذلك شكّل بواعث ومحرضات للفنان التشكيلي جورج شمعون للانتقال صوب الانعطافة الثالثة في مسار هذه التجربة الفنية الغنية، تلك الحجارة النادرة التي أقام معها الفنان صلاته الروحية والإبداعية، تلك الحجارة التي قرأ من خلالها آلاماً التاريخ التي عانت منها البشرية، و..لاتزال إلى اليوم، بهذا الإحساس الذي يشتمل على أكثر من مستوى، منها قدامة هذا الوجع الإنساني، بذات الوقت هذا الوجع الذي لا يوازيه سوى الإصرار على الحياة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، هكذا صوّر جورج شمعون المحنة السورية، وقرأها على مختلف صعدها المحلية والإقليمية، و..حتى الدولية، وقدّم بذلك (جرنيكا) سورية من الوجع، واللعنة التي سددها على كل من حاول التخريب والقتل في هذا (البلد الأمين)، فآخر لوحة في مشروعه على الحجر الرملي، سيتناول شمعون (تمثال الحرية) الأمريكي، بزخم محيط التمثال بتلك الوجوه التي تصرخ، وهذا ما سينفذه خلال إقامة معرضه القادم في بيروت على مدى إقامة هذا المعرض المقترح.

هنا نقرأ تجربة جورج شمعون بانعطافاتها التي تؤكد على مخيلة لا تلوي على اجترار أو سكون، وأنما دائماً ثمة مفارقات بين مشروع فني وآخر، فنان دائم البحث، يصر على مفارقة ما، عن المشهد التشكيلي السوري في نتاج جديد يقدمه دون أن يخشى ضياع ملامح وخصوصية، فهي تجربة تؤكد مشاهدها بالكثير من العلامات الفارقة التي تؤمّن لها مثل هذه الخصوصية و..تحميها، من خلال مجموعة قيم فنية تشكّل الخيط الخفي والسري الذي يمسك بتنويعات هذه التجربة من أطرافها.

من عتبة بيتي

(العالمية تبدأ من عتبة بيتي) جملة تحريضية قالها مرة الشاعر الداغستاني رسول حمزتوف، و..استطاع الروائي باولو كويلو في رائعته (الخيميائي) أن يؤكد هذه العتبة في الكنز الذي كان يبحث عنه الراعي الإسباني (سانتيغو) في الصحراء، وقرب أهرامات مصر، و..قد وجده أخيراً بعد هذه الرحلة المضنية من البحث في كنيسة مهجورة بإسبانيا. و..السؤال: هل وجد جورج شمعون (كنزه) المحلي في اتجاهه طوال الوقت صوب سورية العتيقة ؟؟

يُجيب شمعون: ليعلم الجميع إنّ السورياليين التي كتب بيانها الأول أندريه بريتون عام 1928 موجودة على واجهة قيثارة مملكة ماري منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد، والتعبيرية التي اعتبرتها أوروبا من أهم اكتشافاتها البصرية في العصر الحديث موجودة هي الأخرى في منحوتات تل حلف التي يعود عهدها إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وكذلك أقنعة (جيمس أنسور وانسيس بيكون) موجودة في قناع بازوزو ولاماشتو، وقناع نارام سن، و..غيرها. و..حتى الرمزية موجودة في رموز آشور (القرص المجنح) وعشتار (نجمة بلاد النهرين) والإله (سن) و..غيرها.

حتى الأيقونة رغم قدمها في المنطقة السورية، تأثرت بالرسوم الجدارية لمملكة ماري. الأيقونة التي تعتبر من الفنون الغربية أرى أن أقرب فن اشتقت منه هو الفن التدمري القديم، وبهذا – يُضيف – فأنا لم أخرج من سوريتي عبر تركيزي على الأيقونة في معظم لوحاتي..كما تأتي تجربة بوشكين الشاعر الروسي الشهير، مع المصور كايبرنسكي، وجورج روو مع مارسيل آلن في مزواجة النص البصري مع النص الأدبي، وهي موجودة أيضاً في أغلب المنحوتات البارزة الآشورية أثناء حكم (آشور ناصر بال) الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد. ويردف شمعون: من هنا كانت محليتي، حيث اعتمدت مبدأ تقابل الفنون في معظم ما قدمته من أعمال فنية، و..كانت هنا كنوزي، ويُضيف: عندما كنت أدرس في السويد بمدرسة اللغة سُئلت عن اسمي وعملي ومن أي بلد قادم، و..عندما أجبت من سورية، قالت مدرسة اللغة: إن هذا الرجل قادم من بلد عندما اخترع أجداده الكتابة كانت السويد تعلوها طبقة جليد سمكها (؟ كم). فهذا الوطن الذي صدّر إلى العالم الحرف وليس الانحراف صدّر الأبجدية ولم يصدِّر الدموية والفتنوية. هذا البلد أول من دجنّ القمح والحبوب وصنع معدن النحاس، بلد أوجد أول إمبراطورية في التاريخ (إمبراطورية سرجون الأكادي) لايزال ينعم بمناجم حقيقية للإبداع، وهي لن تنضب أبداً.

بقي أن نذكر إن الفنان التشكيلي جورج شمعون: من مواليد رأس العين 1957عضو تجمع فناني الرقة 1980 عضو اتحاد الفنانين التشكيليين السورين 1983 معرض فردي – الرقة سورية 1979 لكنه أقام في معظم المدن السورية، وهو عضو تجمع فناني (الرقة)، وعضو نقابة الفنون الجميلة، فرع (الرقة)، أقام معارض فردية وجماعية داخل وخارج القطر، وأعماله مقتناة أيضاً داخل وخارج سورية.

قدم خلال سني تجربته الفنية عشرات المعارض الفردية والمشتركة، نال الميدالية الذهبية سنة 2003 بايطاليا.

العدد 1104 - 24/4/2024